تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج. وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له. ومثل ذلك الخمر، فإذا كانت بعض الكتب المسيحية قد جاءت بإباحتها أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.

فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أيُّ حرج ديني، لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدس. ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.

روح التسامح عند المسلمين:

الركيزة العاشرة للتسامح الإسلامي تتجلى فيما نسميه (روح التسامح الديني) عند المسلمين، ذلك أن هناك شيئًا لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات. ذلك هو (روح السماحة) التي تبدو في حُسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان. وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء. وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي. تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15).

وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (الإنسان:8.ولم يكن الأسير ين نزلت الآية إلا من المشركين. وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المُصِرِّين: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (البقرة:272).

وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدوِّن مذهبه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم [9]. هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه. وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبى بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصِلها؟ قال: "نعم، صِلي أمك" [10].

وفي قول القرآن يبين أدب المجادلة مع المخالفين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت:46). وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم. ذكر ابن إسحق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ـ لما قدموا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم [11]. وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في (الهدي النبوي) فذكر مما فيها من الفقه: (جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك) [12].

وروى أبو عبيد في (الأموال) عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تُجْرَى عليهم [13].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير