ويقول القاضي ابن عطية: "إن كتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أُدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهه في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب ـ يومئذِ ـ في سلامة الذوق، وجودة القريحة".
ونجد الرافعي عندما يتحدث عن الجمل القرآنية يقول: إن كلماتها قد قُدرت لها تقديراً محكماً، بحيث لا تجد كلمة زائدة أو معنى فيه شيء من النقص، وكذلك نجد د. محمد دراز وسيد قطب يوليان الكلمة القرآنية كثيراً من العناية، ويبيّنان سر اختيارها.
وفي هذا الموضوع كتب الدكتور فضل عباس بحثاً بعنوان: (المفردات القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز)، قال فيه: "إن المفردة القرآنية تعتبر مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ذلك أن المفردات القرآنية مختارة منتقاة، ثم قال: إن كل كلمة في القرآن الكريم اسماً أو فعلاً أو حرفاً إنما جاءت لتؤدي رسالة خاصة بها لا يؤديها غيرها من الكلمات".
إذن فالكلمة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز البياني، والفاصلة القرآنية هي كلمة في آخر الآية، هذه الكلمة كغيرها من كلمات القرآن تُختار اختياراً دقيقاً لتؤدي الرسالة التي جاءت من أجلها، ويظهر فيها إعجاز القرآن، وهذا هو حظ الفاصلة من الإعجاز.
ثالثاُ: حظ الفاصلة من الإعجاز
ذكر الدكتور الحسناوي هذا العنوان في كتابه (الفاصلة في القرآن)، وبيّن أن إجماع الجمهور على اعتبار السورة أدنى حجم لمقدار المعجز، ونفي الإعجاز في الجزئيات وحدها، بل هي جزء يًسهم في الإعجاز.
وهذا القول للدكتور الحسناوي هو رفض لأن تكون الكلمة المفردة بحدّ ذاتها معجزة، فلا يظهر إعجاز الكلمة أو الفاصلة إلا عند اتصالها بباقي الكلمات في الآية، وهذا موافق لنظرية النظم التي قال بها الشيخ عبد القاهر قديماً.
فإعجاز القرآن عند المحققين من أهل العلم يظهر بنظم القرآن الكريم، لا بكلماته المفردة، وعليه فالفاصلة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز بموقعها من الآية واتصالها بها، وباختيارها دون غيرها، فليست معجزة بمفردها.
ومن هنا كان لا بد للفاصلة من وظيفة تؤديها يظهر بها إعجاز القرآن، فما هي وظيفة الفاصلة؟
رابعاً: وظيفة الفواصل
لم تأتِ الفواصل عبثاً أو لتتميم السجع، بل جاءت لتؤدي معنى تتم به الفائدة، ويطلبه السياق، وقد عرض الدكتور فضل عباس لهذه القضية في ردّه على دائرة المعارف البريطانية، حيث قال: "وقد استدلت دائرة المعارف البريطانية على أن القرآن مجرد إنشاء بطريقة عشوائية، استدلت على هذه الدعوى بالفواصل القرآنية، حيث جاء فيها: (وكان القرآن يعطي للقارئ أنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات، بآيات مثل: (إن الله عليم)، (إن الله حكيم)، (إن الله يعلم ما لا تعلمون)، وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها، وأنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية).
ثم قال: الفاصلة القرآنية لم تأتِ لغرض لفظي فحسب، وهو اتفاق رؤوس الآي بعضها مع بعض، وهو ما يعبرون عنه بمراعاة الفاصلة، إنما جاءت الفاصلة في كتاب الله لغرض معنوي يحتمه السياق، وتقتضيه الحكمة، ولا ضير أن يجتمع مع هذا الغرض المعنوي ما يتصل بجمال اللفظ وبديع الإيقاع".
وأثناء ردّه على هذه الشبهة في كتاب آخر، قال: "الدقة في الفاصلة القرآنية والترتيب المحكم، والنظام البديع لا يقلّ عما في هذا الكون، فخالق الكون ومنزل القرآن هو الله، الذي أتقن كل شيء، وكان حريّاً بأولئك أن لا يصدروا أحكاماً على ما لا يعلمون، وهذا ما تقتضيه بدهيات البحث العلمي".
إذن الفاصلة القرآنية لها وظيفتان: الوظيفة الرئيسة معنوية يحتمها السياق، ووظيفة أخرى لفظية تتصل بجمال الإيقاع، ولا يجوز أن نقول إن الفاصلة جاءت لتتفق مع رؤوس الآي الأخرى فقط دون الانتباه للغرض المعنوي، وهذا ما قررته أيضاً د. عائشة عبد الرحمن في كتابها (الإعجاز البياني للقرآن).
¥