والغرض المعنوي للقرآن هو المعنى الذي تؤديه الفاصلة، قال علي الجندي: "من مزايا معاني الفواصل في القرآن الكريم شدة ارتباطها بما قبلها من الكلام، وقوة تعطّف الكلام عليها، كأنهما معاً جملة مفرغة يسري فيها روح واحد، ونغم واحد ينحدر إلى الأسماع انحداراً، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيداً لها لتتمم معناه، حتى لتبلغ من وقوعها موقعها، واطمئنانها في موضعها أنها لو حذفت لاختل معنى الكلام، واضطرب فهمه، واستغلق بيانه، ولو سُكت عنها لاستطاع السامع أن يختمه بها انسياقاً مع الطبع الملهم والذوق السليم ... ـ ثم يتابع فيقول ـ: بل قد يبلغ من تعيّنها في مكانها وفرض نفسها عليه، أنها لو بدّل بها غيرها لأدرك السامع الحصيف الثاقب الفطنة أن كلاماً غريباً ينقصه التناسب حلّ محلها، فأنكر ذلك سمعه وضاق به صدره .. من ذلك أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: (وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر)، قرأها بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون!! فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال: يكون".
واتصال الفاصلة مع السياق قد يكون ظاهراً لا يحتاج إلى مزيد نظر، وقد يحتاج إلى تأمل وتفكّر ودراية بمعاني الكلمات الدقيقة، وهذه الدراية هي التي تبيّن تمكّن الفاصلة من موقعها وتنفي الترادف عن بعض الكلمات، فلا يُقال حينئذٍ: إن الآية لو خُتمت بـ (الرؤوف) بدلاً من (الرحيم) لا بأس، فالكلمتان تدلان على الرحمة.
وقد قُرر سابقاً أن الكلمة أو الفاصلة مختارة منتقاة دون غيرها من الكلمات التي قد يُظن بها الترادف، وهذا يعني أنه لا ترادف في القرآن، كما أنه لا ترادف في العربية بشكل عام، وهذا هو الموضوع التالي.
خامساً: نفي الترادف
لكل لفظة في اللغة العربية معنى خاص به يميّزه عن غيره من الألفاظ، فهناك فروق بين الكلمات، هذه الفروق هي التي جعلت لكل كلمة موقعها الذي لا يناسبه غيرها، وهذا هو نفي الترادف، وقد تحدث عن هذا العلماء قديماً وحديثاً، يقول د. محمد المبارك في كتابه (فقه اللغة وخصائص العربية) عن موضوع الترادف تحت عنوان: (آفة الترادف والعموم والغموض)، أنقل كلامه باختصار، قال: لقد أصاب العربية في عصور الانحطاط المنصرمة مرض العموم والغموض والإبهام، كما أصابت هذه الآفات التفكير نفسه، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة فغدت مترادفة ..
ثم قال: وقد كان كتّاب العربية في العصور الزاهرة يحرصون على دقة التعبير ووضع الألفاظ في مواضعها، ... ونحن اليوم بحاجة للتحرر من آفات عصور الانحطاط في ميدان اللغة، والعودة إلى خصائص العربية في استعمال اللفظ الخاص والعام، وكل في موضعه اللائق به، ومكانه المناسب له.
وردّ الإمام محمد عبده بشدة القول بوجود كلمات مترادفة، حيث قال: "وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى تقريراً أو إيضاحاً، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يُسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنمق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها".
وعلى هذا، فلا يقال مثلاً في قوله تعالى: (إن الله كان عفواً غفوراً) إن (عفو) و (غفور) بمعنى، وجاء اسم (الغفور) لتوكيد (العفو) دون زيادة معنى، فلا بد من زيادة فائدة.
سادساً: أسماء الله الحسنى في الفاصلة القرآنية
كثير من الآيات الكريمة خُتمت بأسماء الله الحسنى، حيث بلغت أكثر من خمسمائة آية، وهذه الأسماء الكريمة تلقي بظلالها على الآية التي ذكرت في ختامها، فتتصل اتصالاً وثيقاً معها، بحيث إنه لا يمكن استبدال الاسم باسم آخر، وإنْ كان يشترك معه في أصل المعنى، فمثلا (الغفور) لا يمكن استبداله بـ (الغفار) مع أن كليهما يدل على ستر الذنوب. قال الغزالي في (المقصد الأسنى): "هذه الأسامي، وإنْ كانت متقاربة المعاني .. فليست مترادفة .. وعلى الجملة يبعد الترادف المحض في الأسماء الداخلة في التسعة التسعين؛ لأن الأسامي لا تُراد لحروفها ومخارج أصواتها، بل لمفهوماتها ومعانيها، فهذا أصل لا بد من اعتقاده".
ولا بد من البحث عن وجه الربط بين الاسم الكريم وبين ما سبقه، فالآية وحدة واحدة تترابط أجزاؤها وتنتظم انتظام الدرر في العقد.
(يتبع) ....
[ line]
1. انظر: مادة (فَصَل) في (لسان العرب)، و (أساس البلاغة)، و (القاموس المحيط).
2. المعجم الوسيط.
3. رسالة الرماني (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، ص97.
4. إعجاز القرآن للباقلاني، ص244.
5. إتقان البرهان في علوم القرآن، فضل عباس، (440:1).
6. رسالة الخطابي، (ثلاث رسائل .. )، ص29.
7. المحرر الوجيز، (39:1).
8. نُشر هذا البحث في مجلة (دراسات)، الجامعة الأردنية، مجلد11، عدد4، 1984.
9. انظر: (الفاصلة في القرآن)، محمد الحسناوي، ص378.
10. إعجاز القرآن الكريم، فضل عباس، ص222.
11. قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، نقد مطاعن وردّ شبهات، فضل عباس، ص82.
12. الإعجاز البياني للقرآن، ومسائل نافع ابن الأزرق، عائشة عبد الرحمن، ص278.
13. صور البديع، فن الأسجاع، علي الجندي، (192:2).
14. فقه اللغة وخصائص العربية، محمد المبارك، ص (318 - 321) باختصار.
15. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، (46:1).
16. المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، أبو حامد الغزالي، ص23.
¥