وإذا تدبرنا قوله تعالى: (وَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ) وجدنا أنها تحدثت عن وحدانية الألوهية، وتظهر هذه الوحدانية في جوانب عدة، يقول صاحب الظلال: "ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التأكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة، وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك، ويتوحّد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين، ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق، ثم يقول: يُذكر من صفات الله هنا: (الرحمن الرحيم)، فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف" (17).
من هذه النظرة العميقة في ظلال معنى التوحيد، نجد أن صفة الرحمة جاءت مناسبة جداً لهذا المقام، بحيث إن أي صفة أخرى لن تسدّ مسدّها .... فالرحمة تظهر في توحيد المعبود، وفي التشريعات التي شرّعها المعبود.
الآية الرابعة: (تَنزِيلٌ مِّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ) [فصلت:2]
وجه ارتباط الفاصلة بالآية ظاهر، فذكر الرحمة مع تنزيل القرآن؛ لأنه نزل رحمة للناس يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد نزل فيه من التشريعات ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عاشور: "في ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا القرآن بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي? آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت44] (18) ".
فهدف تنزيل الكتاب رحمة العباد، إلا أننا نجد في آيات أخرى اقتران التنزيل بأسماء أخرى، كقوله تعالى في سور الزمر، والجاثية، والأحقاف: (تَنزِيلُ ?لْكِتَابِ مِنَ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ)، وفي سورة يس: (تَنزِيلَ ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ)، وغيرها من الأسماء، وسأحاول بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
الآية الخامسة: هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِي لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَادَةِ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ [الحشر:22]
ذكرُ الاسمين الجليلين بعد ذكر صفة العلم له ملحظ نفسي أشار إليه صاحب الظلال، وهو أن علمَ الله للظاهر والمستور يوقظ في النفس شعور المراقبة، فيعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقَب من الله، المراقِب لله، وبعد صفة العلم يذكر صفة الرحمة ليستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح، ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة، فالله في تصوّر المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء (19).
هذا هو سر اختيار الاسمين الدالّين على الرحمة في هذه الآية الكريمة.
لم يقترن الاسمان الكريمان في الفواصل القرآنية إلا في الآيات السابقة، ويلاحظ من خلال ما سبق أنهما يقترنان في سياق الحديث عن التوحيد.
ففي سورة الفاتحة ذُكر الاسمان في البسملة بعد الاسم الأعظم (الله) الذي يشير إلى توحيد الألوهية، ثم ذكرا في الآية الثالثة من السورة بعد قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)، وهذا هو توحيد الربوبية.
أما قوله تعالى: (وَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ) فظاهر، كما أن السياق الذي وردت فيه آية فصلت: (تَنزِيلٌ مِّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ) يتحدث عن التوحيد، ففي مطلع السورة يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ فَ?سْتَقِيمُو?اْ إِلَيْهِ وَ?سْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ)، وذكر التوحيد غير مرة في السورة، فمثلاً قوله تعالى: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِ?لَّذِي خَلَقَ ?لأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ?لْعَالَمِينَ)، وقال: (إِذْ جَآءَتْهُمُ ?لرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُو?اْ إِلاَّ ?للَّهَ)، وقال: (لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَ?سْجُدُواْ لِلَّهِ ?لَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، وقال: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُو?اْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ).
ويبدو ذلك واضحاً في آية الحشر، حيث إن هذين الاسمين: (الرحمن) و (الرحيم) أحيطا بذكر التوحيد، فقال تعالى: (هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِي لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَادَةِ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِي لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ... ).
وسر الربط بين التوحيد وبين هذين الاسمين، هو ما ذكرتُه قبلُ وهو أن الرحمة تظهر في توحيد المعبود، وفي التشريعات التي شرّعها، والله أعلم.
[ line]
1. معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (رحم).
2.عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي، (87:2).
3.المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، وانظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزأبادي.
4.عمدة الحفاظ، (87:2).
5.الكشاف، (16:1).
6.اشتقاق أسماء الله الحسنى، أبو القاسم الزجاجي، ص55، وانظر: بصائر ذوي التمييز.
7.بدائع الفوائد، (21:1).
8.المختار من تفسير القرآن العظيم، (12:2).
9.تفسير المنار، (12:2).
10.روح المعاني، (84:1).
11.المنار، (37:1).
12.تفسير أبي السعود، (15:1).
13.المنار، (53:1).
14. تفسير أبي السعود، (11:1).
15.انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، (423:5).
16.تفسير أبي السعود، (184:1).
17.في ظلال القرآن، (214:1).
18.التحرير والتنوير، (230:24).
19.انظر: الظلال، (49:8).
¥