ويمكن ترجيح قول الإمام محمد عبده بأن (الرحمن) صفة فعل، و (الرحيم) صفة ذات، حيث استدل على رأيه بما جاء في اللغة، والقرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين، أما قوله: (وكان بالمؤمنين رحيماً)، فيمكن أن يكون المراد أن صفة الرحمة ملازمة ثابتة لله تعالى في معاملته للمؤمنين، فهو تعالى لا يعاملهم إلا بهذه الصفة، ولو أنه قال: وكان بالمؤمنين رحماناً، لفُهم أن الرحمة بالمؤمنين قد تنقطع؛ لأن صيغة فعلان تدل على الصفات العارضة، والله اعلم.
هذه هي أهم الأقوال التي قيلت في التفرقة بين الاسمين، وألخصها بأمرين:
الأول: في لفظ (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم) لدلالة بناء (فعلان) على السعة والشمول.
الثاني: (الرحمن) صفة تدل على صدور فعل الرحمة، و (الرحيم) صفة ذات، تدل على صفة ثابتة، وتدل على منشأ الرحمة.
وفيما يلي الآيات التي اشتملت في فواصلها على هذين الاسمين مجتمعين:
الآية الأولى: (بسم ?لله الرَّحْم?نِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة:1].
الآية الثانية: (?لرَّحْمـ?نِ ?لرَّحِيمِ) [الفاتحة:3]
"ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز وجل، وذكرهما في الآية الثالثة من الفاتحة تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد"، قاله الألوسي (10).
فناسب أن يُذكر هذان الاسمان الجليلان المشتَقَّان من الرحمة في أول الكتاب لما فيهما من معنى الإحسان، والتفضل، فنحن نبدأ مستعينين بالله لما له من فضل علينا، ونحمده كذلك لكثرة إنعامه علينا.
وذكر الإمام محمد عبده أن الابتداء بالرحمة في أول الكتاب وعدٌ بالإحسان، وتكريرهما مرة ثانية تنبيه لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا (11).
فنبّه الإمام على موقع هذين الاسمين بالنسبة للقرآن الكريم، وما جاء فيه من أوامر ونواهٍ.
ويمكن أن نربط بينهما وبين ما جاء قبلهما، وهو لفظ الجلالة في البسملة، قال أبو السعود: "والاقتصار على نعته تعالى بهما في التسمية؛ لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل والأوفق لمقاصده" (12).
وكذلك الأمر في الفاصلة الثانية .. يمكن ربط الاسمين بما سبقهما، وهو قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)، "فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرّفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وليتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته" (13).
وفي سبب تقديم (الرحمن) على (الرحيم) مع كون القياس تأخيره رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى، كما في قولهم: جوّاد فيّاض، قال أبو السعود: لأنه باختصاصه به عز وجل (يعني اسم الرحمن) صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى؛ ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحق بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها، وإفراد الوصفين الجليلين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة" (14).
وما قيل في آيات الفاتحة، يقال في البسملة التي افتُتح بها كتاب سليمان ـ عليه السلام ـ إلى أهل سبأ: (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ?للَّهِ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ) [النمل:30]، ويُضاف: إنه عليه السلام بعد أن عرّفهم بصاحب الكتاب عرّفهم بالإله الذي دعاهم لعبادته لما وجب له لذاته، وما استحقه بصفاته؛ ليكون ذلك أجدر بقبول كتابه (15).
الآية الثالثة: (وَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ) [البقرة:163]
تكلم أبو السعود عن وجه ارتباط هذه الفاصلة بآيتها، فقال: "هو تقرير للتوحيد؛ فإنه تعالى حيث كان مولياً لجميع النعم وأصولها وفروعها، جليلها ودقيقها، وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما يتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب، وانحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعاً" (16).
ويمكن أن أضيف وجهاً آخر في مناسبة الفاصلة للسياق، وهو مناسبة لفظية ومعنوية، فالرحمة هنا جاءت بعد ذكر التوحيد في مقابل اللعنة التي جاءت في الآية السابقة مقترنة بالكفر، وهو قوله تعالى: (إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ?للَّهِ وَ?لْمَلا?ئِكَةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، والرحمة ضد اللعنة التي هي لمن كفر ومات على الكفر، والرحمة لمن وحّد.
¥