ويمكن أن يقال: إنه تعالى لما ذكر تشريفه لمحمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء وما يحمله ذلك من إبراز قضية التوحيد، ذكر تشريف موسى بالتوراة وتركيزها على التوحيد أيضاً، فقال: (وآتينا موسى الكتاب .... ).
(ذرية من حملنا مع نوح ... ): كأنه قال في الآية السابقة: لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي؛ لأن نوحاً كان عبداً شكوراً، والشكر مرتبط هنا مع التوحيد والعبودية لله تعالى، وأنتم ذرية نوح، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم.
كما أن هذه الآية تذكير لهم بنعمة الله عليهم التي هي بمثابة تعليل لِما طُلب منهم في الآية السابقة، وهو: (ألا تتخذوا من دوني وكيلاً)، فقد أنجيت آباءكم من الغرق، وهذه نعمة تستوجب الشكر والإيمان، والشرك هو أعلى درجات الكفران.
البلاغة
وَآتَيْنَآ مُوسَى ?لْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
-انتقل الكلام من ضمير الغيبة في الآية السابقة إلى التكلم، وهذا الالتفات لتربية المهابة في النفوس، وتعظيم الفاعل وتعظيم القدرة، فهو المتصرف بخلقه.
-قرئ بتاء الخطاب: ألا تتخذوا، فـ (أن) هنا تفسيرية، و (لا) ناهية، والكلام فيه التفات.
وقرئ بياء الغيبة، فـ (أن) مصدرية، والمعنى: وآتينا موسى الكتاب. . . لئلا يتخذوا ...
- (من دوني) متعلق بـ (وكيلاً)، وقُدِّم عليه؛ فلم يقل: ألا تتخذوا وكيلاً من دوني؛ للمسارعة في النهي عن اتخاذ أحد من دون الله وكيلاً.
-تنكير (وكيل) لتفيد العموم، فنهاهم عن أن يتخذوا أيّ وكيل.
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
-إيثار التعبير بـ (ذرية من حملنا .. ) على التعبير بـ (يا بني إسرائيل)؛ فيه تذكير لهم بأصلهم، فهم يعتزون بكونهم بني إسرائيل، والله تعالى يريد أن ينزع منهم هذا الاعتزاز، فيناديهم: يا ذرية من حملنا مع نوح، بحيث يلتقوا هم والبشرية في أب واحد، وهو نوح عليه السلام، فما وجه التعالي؟!
وفيه إثارة لعزائمهم نحو الإيمان والعمل الصالح، وتنبيههم إلى نعمه ـ سبحانه ـ عليهم، حيث جعلهم من ذرية أولئك الصالحين الذين آمنوا بنوح عليه السلام، وحضهم بالسير على مناهجهم في الإيمان والعمل، فإن شأن الأبناء أن يقتدوا بآبائهم في التقوى والصلاح.
-في إيثار لفظ (ذرية) الواقع على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لتذكيرهم بضعفهم حين حملهم.
- (حملنا): الإضافة إلى نون العظمة توحي بالامتنان بالنعمة والفضل.
- (إنه كان عبداً شكوراً): إيذان بأن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره عليه السلام، وحثّ ذريته على الاقتداء به، وفيه تعريض بهم، والتقدير: اشكروني كشكره، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفران.
- (شكوراً): صيغة مبالغة تفيد كثرة صدور الحمد منه عليه الصلاة والسلام.
-وصف نوح بالعبودية لإبراز صفة الرسل المختارين، وقد وُصف بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى، وهذا على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها.
الدروس المستفادة
وَآتَيْنَآ مُوسَى ?لْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
-سيكون صراع بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمة هذا النبي ـ موسى عليه السلام ـ إلى قيام الساعة.
-من سنن الله تعالى العدل، فلا يعاقب قوماً إلا بعد إبلاغهم عن طريق الكتاب الذي يحمل الهدى المؤدي للجزاء الحسن.
-بيان فضل الله تعالى على بني إسرائيل بإيتاء موسى الكتاب.
-بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس إلى عبادة الله تعالى وتوحيده.
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
-ركزت الآية على أهمية الشكر، وذلك حين أشارت إلى التشريف الإلهي لنوح بوصفه عبداً شكوراً.
-بنو إسرائيل متساوون مع باقي البشر، فليسوا أفضل منهم، وهم جميعاً من أصل واحد.
-الشرك أعلى درجات الكفران.
-الشكر يعني تقدير النعم التي لا تحصى، ومن يُقدّر النعم تلك يدرك حجم قدراته وإمكاناته البشرية، فلا يعلو في الأرض بغير الحق، (كما سيأتي في الآية التالية).
يتبع ...