وفي تلك المرحلة الحاسمة، في مفترق الطرق ذاك، كان يمكن لتلك النماذج أن كون جهة تأثير على التجربة الوليدة، خاصة وأن بعضها امتلكت –في موروثها- تجربة دينية سماوية يمكن أن تقارن بالدين الإسلامي ..
وهناك، كانت الحيرة، وهناك كان مفترق الطرق ..
وهناك تقلب وجهه، بحثاً عن جهة ..
* * *
(فلنولينّك قبلة ترضاها .. ).البقرة 144
* * *
لكن، صحيح، ما هي القبلة؟ ..
لقد تعودنا على الأمر الى درجة البلادة، والى درجة إستنكار أي سؤال يحاول أن يعيد تعريف الأمر ويعيد إستكشافه.
لكن صحيح، ما هي القبلة؟.
على المعنى تراكمت خيوط العنكبوت. وعلى رؤوسنا تراكمت خيوط التقليد، لو أننا حككنا رؤوسنا قليلاً، لربما خرج مارد آخر من قمقم المعاني الكامنة .. ولربما صار، للقبلة، معنى آخر- يجدد معنى اتجاهنا إليها.
* * *
علمونا أن نضبط اتجاهنا منذ زمن بعيد، منذ تعلمنا الصلاة ..
ربما قالوا لنا أن الصلاة لا تصح بلا ضبط الاتجاه، وقالوا شيئاً آخر عن التوحد بين المسلمين واتجاههم جميعاً نحو نفس الجهة كلما توجهوا للصلاة ..
.. مع الوقت، تعودنا الأمر، وتعودنا الإتجاه، وإذا حدث وصلينا في مكان مختلف- كأن نكون ضيوفاً عند أقارب أو أصدقاء، فإننا سرعان ما نسألهم، بينما نحن نفرش السجادة على الأرض، أين اتجاه القبلة؟ .. – ولعل الأمر يزيد صعوبة إذا نزلنا مسافرين غرباء في فندق ليس فيه مصلي واحد في مدينة أجنبية، وقتها سيصير علينا الإستعانة بالجهات الأربع، وربما بالبوصلة- والتي إنتبه مصنعو السجاد في تايوان الى أهميتها التسويقية في هذا المجال فوضعوها – ملحقةً ببعض أنواع السجاد ..
* * *
ولأن الأمر بهذه الحساسية والأهمية، فقد قاس علماؤنا وفقهاؤنا من المعاصرين، على جواز الإتجاه لأي جهة أثناء الصلاة على الدابة- فقد خرجوا فتوى تجوز الصلاة لأي جهة أثناء الصلاة في الطائرة ..
وأظن أني قرأت فتوى (إفتراضية) - تقول بجواز الإتجاه الى –الكرة الأرضية- بمجملها. إذا أديت الصلاة على ظهر القمر ..
وهو أمر منطقي كما هو واضح، لكنه غير واقعي مطلقاً، فالذين وطئوا القمر بأقدامهم لم يكونوا من المسلمين .. وليس من الوارد قريباً حدوث شيء كهذا، إلا إذا أراد غزاتنا الأكارم التخلص منا بنفينا الى القمر في مجاهله وصحاريه .. وهو أمر غير وارد أيضاً، لأن التخلص منّا- بالطريقة التي يحرصون عليها حالياً- أكثر جدوى إقتصادياً من أعباء نفينا الى القمر.
* * *
.. ولا أظن مصلياً من رواد المساجد لا يحتفظ في ذاكرته بسجل من المناقشات والجدل بخصوص القبلة- كلما زاد عدد المصلين وتجاوز الباحة الرئيسية الى ممرات المسجد والحديقة الخارجية ..
ولا أظن مصلياً من رواد المساجد ينسى أن الأمر يتراوح بين (تعديل) وضعية المصلي أثناء صلاته .. الى مطالبته بإعادتها- وفق الإتجاه الصحيح للقبلة- فور إنتهائه من الصلاة ..
القبلة أمر مهم إذن. والحياد عنها قد يستوجب إعادة الصلاة ..
وهو أمر خطير ..
* * *
.. لكن لماذا؟.
* * *
صحيح، "القبلة" مهمة جداً. وخطيرة جداً. لكن لماذا؟.
ما الأمر فيها بالضبط ..
* * *
لا أقول ذلك كله من أجل التشكيك بركن من أركان الصلاة والعياذ بالله ..
لكني أشير الى أن التأكيد على أهمية القبلة- قد لا ينسجم- للوهلة الأولى- مع كل ما يؤكده الإسلام من نبذ الشكليات والمظاهر في كل أنواع العبادات ..
نعم، يحدث ذلك للوهلة الأولى .. فالإسلام قام، ومنذ البداية، بتفجير وإلغاء كل أنواع الوساطة بين الله والبشر، بل إنه تفرد في ذلك بالذات من بين كل الأديان السماوية، فألغى دور الكهانة التقليدية •التي إحتكرت طويلاً العلاقة بين الخالق والمخلوق، والتي شكلت في بعض المجتمعات- إن لم يكن أكثرها-، طبقة متنفذة تملك ما تملك من المال والسلطة .. وتتحكم نتيجة لذلك، بأمور ومقدرات الناس ..
بل إنه نتيجة لإلغاء دور الكهانة، قام بإلغاء الدور التقليدي لدور العبادة وتحويلها من مكان منعزل على نفسه وعلى رواده- الى مكان منفتح على السماء وعلى العلاقة بها وعلى الآخرين وعلى بعضهم البعض ..
¥