بل أنه ألغى كل المظاهر الوثنية التي أثقلت فكرة "الله" في أذهان المؤمنين به حتى في الأديان السماوية، ألغى التجسيم الذي حول الله الى مجرد مارد عملاق له بعض القوى الخارقة. ألغى التشبيه الذي جعل من صفات الله حبيسة داخل تصورات مادية ضيقة محصورة داخل الصفة الإنسانية المقابلة لصفاته عز وجل ..
.. وألغى الإسلام كل تلك القوالب والأطر والأقانيم التي وضعوا فكرته- تعالى وسما- وأطلقها – بدلاً عن ذلك- داخل لا حدود المطلق، داخل اللامتناهي الذي شكلته الأسماء الحسنى والصفات العلى.
.. وألغى أيضاً فكرة الأولياء والقديسين وأشباههم وأنصافهم الذي كانوا يحتكرون جزءاً من المساحة الخاصة بين الإنسان والله ..
لقد ألغى الإسلام كافة الشكليات والمظاهر التي كانت تثقل العلاقة بين الفرد وربه .. الأرض كلها جعلت له مسجداً وطهوراً، يستطيع أن يصلي في أي وقت، وأي مكان .. لا يحتاج الى أن يكون في دار عبادة، تحت إمرة كاهن أو رجل دين .. فقط أن يفترش الأرض ويتطهر ويفتح قلبه و عقله لذاك الذي يعلم ما في القلوب و العقول ..
شي واحد فقط، حرص الإسلام على شكليته- أو على الأقل هذا ما يبدو- إنه القبلة .. الحرص على شكل الإتجاه إليها ..
* * *
أم أن الأمر ليس كذلك؟ .. و"القبلة" ليست مظهراً شكلياً في العلاقة بين الإنسان والله؟ ..
* * *
القبلة لغة هي"الجهة". هذا ما تقوله المعاجم ..
لكننا لو تأملنا في اللفظ، لوجدنا أنها ليست أي جهة.
إنها جهة "يقبل" عليها الناس- "جهة" يقبل بها الناس .. بين القبول والإقبال ستكون "القبلة" مكاناً ينجذب الناس إليه، يذهبون إليه، يرجعون إليه ..
(يرجعون إليه؟. حتى لو لم يكونوا فيه قط .. ).
يتخذونه مرجعاً؟ ..
بعض جوانب بالصورة- من الشكل الذي لا يمكن أن يكون شكلاً فحسب- بدأت بالتوضح.
*****************************
بعد القبول، هنالك ما هو أكثر ..
هنالك الرضا ..
(فلنولينك قبلة ترضاها .. )
.. وبين القبول والرضى .. هناك مسافة علينا أن نقطعها- نجتازها .. بين الفهم التقليدي .. والفهم المبدع .. ، بعدها ستتوهج "القبلة"- وسنجد أنفسنا منجذبين إليها كما تنجذب الطائرات والأجسام المعدنية نحو مثلث برمودا .. كما ينجذب الفراش نحو النار المتوهجة- لكن مع فارق أن ذلك الإنجذاب لن يميتنا .. لن يحرقنا. بل سيدخلنا في خضم تجربة حياتية مختلفة .. سيحيينا من جديد .. وقد كنا نجهل قبلها كم كنّا أمواتاً ..
نعم، بعد القبول .. هنالك الرضا ..
* * *
بالمناسبة: عندما تخطئ القبلة في الصلاة .. فأن لديك الفرصة لتصحيح الأمر .. و إعادة الصلاة .. لكن عندما تخطئ القبلة في الحياة .. فأن الامر يكون اكثر تعقيدا ..
*******************
أن تتجه دوماً الى مكان واحد، أينما كنت، سواء كان إتجاهك 7 غرباً أو 29 شرقاً، فإنه يعني، أنك بالضرورة، عليك أن تحدد موقعك الذي أنت فيه الآن ..
أن تتجه دوماً الى مكان واحد، يعني أنك يجب أن تحدد مكانك الذي أنت فيه- وفي عالم شديد التغير، سريع التحول، فإن تحديد مكانك يعني تحديد مكانتك ..
يعني أنك ستكون دوماً شديد الوعي بمكانك .. هل هو على السفح المعرض للإنهيار .. أم هل هو على تلك القمة التي تأتي الهاوية بعدها بخطوة واحدة ..
.. هل أنت في القعر السحيق؟ .. أم في بطن الحوت؟ .. أم أنك في لا مكان- لأنك أقل أهمية من أن تأخذ حيزاً في هذا العالم- ..
أن تتجه دوماً الى مكان واحد، يعني أن تكون على وعي بمكانك أنت ..
بمكانتك ..
* * *
.. وأن تعرف (أين) تريد، يعني أيضاً أنك يجب أن تعرف (ماذا) تريد ..
أن تعرف أنك تريد هذه الجهة بالذات، هذه القبلة بالذات لتتوجه إليها في حياتك، يعني أنك يجب أن تعرف بالضبط ماذا تريد من حياتك ..
هذا التشديد على "الجهة"، ليس من أجل خطوط الطول والعرض، ليس من أجل الإتجاه الجغرافي .. - ولكن من أجل أن نشدد على أن يكون لدينا هدف، لدينا مقصد، لدينا جهة نعرف أننا نريد أن نذهب إليها ..
.. الأمر عميق فينا، وكلما أزداد عمق جذور "القبلة" فينا، كلما زاد هذا الإحساس وتجذر .. وصار أصيلاً فينا ..
إن لدينا هدفاً، لدينا مكاناً نعرف أننا نقصده ..
* * *
.. وعندما تعرف أين أنت، وتعرف أين تريد .. فالأمر دوماً يصير أسهل، ودوماً يصير الطرق أقصر .. وأقل وعورة ..
* * *
¥