تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و- ومن ألوان التخييل الحسي في القرآن الكريم لون تتمثل فيه سرعة الحركة ومثالة ما جاء في سورة الحج {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} سورة الحج، آية 31. يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية الكريمة مبينا هذا اللون من ألوان التخييل الحسي: «إنه مشهد الخوى من شاهق {فكأنما خر من السماء} وفي مثل لمح البصر يتمزق {فتخطفه الطير} او تقذفه به الريح بعيدا عن الأنظار {أو تهوى به الريح في مكان سحيق} في هوة ليس لها قرار! والملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها، وتعاقب خطواتها في اللفظ "بالفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء .. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير. وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوى من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء، إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها، قاعدة التوحيد. ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه، فتخطفه الأهواء تخطف الجوارح وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح، وهو لا يمسك بالعروة الوثقى، ولا يستقر على القاعدة الثابتة، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه» في ظلال القرآن: مج 4، ص2421/ 2422، ويراجع أيضا 2413/ 2414.

ز- ومن أنواع التخييل الحسي في القرآن الكريم نوع يتمثل في إضفاء الحركة على الأشياء الساكنة ومثال ذلك قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} " سورة مريم، جزء من الآية 4 "، يبين سيد قطب في تفسيره لهذه الآية الكريمة كيف أن القرآن الكريم مثل للشيب الذي عم كل الرأس بحركة اشتعال النار في الهشيم فتحيله رمادا: « ... ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا، والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل، ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد. ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه» في ظلال القرآن: مج 4، ص 2302.

هذا عن التخييل الحسي، أما التجسيم فهو الآخر أنواع وألوان، يمكننا ان نذكر هنا بعضها على سبيل المثال:

أ- وأول أنواع التجسيم يشمل: «كل التشبيهات التي جيء بها لإحالة المعاني والحالات صورا وهيئات» التصوير الفني في القرآن، ص 78/ 79، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} سورة إبراهيم، آية 18، يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية الكريمة مبينا كيف جسم القرآن الكريم ضياع الأعمال في مشهد متحرك: «ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا، يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا، هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار، فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله .. مفككة كالهباء والرماد، لا قوام لها ولا نظام، فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية. وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر ... » في ظلال القرآن: مج 4، ص 2094، ويراجع أيضا مج 1، ص 308/ 309، ومج4، ص2098. .

ب- وهناك لون آخر من ألوان التجسيم وهو «تجسيم المعنويات لا على وجه التشبيه والتمثيل، بل على وجه التصيير والتحويل» التصوير الفني في القرآن: ص 79. ومثاله قوله تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} " سورة الكهف: جزء من الآية 49 ". فهو «مشهد تشترك فيه الطبيعة، ويرتسم فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب، مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير فكيف بالقلوب، وتتبدى فيه الأرض عارية وتبرز في صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد، ولا جبال فيها ولا وديان، وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها خافية» في ظلال القرآن: مج4، ص 2274.

ج- ومن ألوان التجسيم التي وقف عليها سيد قطب عند تفسيره للذكر الحكيم، وصف المعنوي بمحسوس، ومثاله قوله تعالى {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} سورة إبراهيم، من الآية 15 إلى الآية 17: «والمشهد هنا عجيب، إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد، مشهد الخيبة في هذه الأرض، ولكنه يقف هذا الموقف، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها، وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم، يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها، ولا يكاد يسيغه، لقذارته ومرارته، والتقزز والتكره بأديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات، ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت ليستكمل عذابه، ومن ورائه عذاب غليظ ... إنه مشهد عجيب، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع، وتشترك كلمة "غليظ" في تفظيع المشهد، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين» " في ظلال القرآن: مج4، ص 2093/ 2094 ".

و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير