وفي هذا فائدة عزيزة، وهي أنه لا يلزم أن تلقي كل العلم لكل سائل، فيعض السائلين قد لا يتحمل المعنى الذي تقوله فيكون له فتنة، وهذا المنهج ظاهر في آثار السلف، ومن ذلك مارواه البخاري عن علي بن أبي طالب قال: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
ثامنًا: طلب السؤال من الطلاب:
روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: (إنا لعند ابن عباس في بيته؛ إذ قال: سلوني.
قلت: أي أبا عباس ـ جعلني الله فداءك ـ بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل ... فقال لي قد كذب عدو الله، ثم ذكر خبر موسى مع الخضر).
من فوائد هذا الأثر:
1 ـ حرصالشيخ على وقته مع طلابه الذين يستفيدون منه، بحيث يشغل وقتهم بالعلم، بخلاف ما مرَّ من منهجه مع عامة الناس.
2 ـ إن السؤال من مذاكرة العلم، ومما يُظهر علمًا مكنزنًا عند الشيخ، لذا يحسن بالشيخ أن لا يضجر من أسئلة الطلاب العلمية؛ إذ كم من سؤال فتح بابًا من العلم على كثير من العلماء.
تاسعًا: توقفه عن التعليم بسبب عارض العمى.
وعن عكرمة، قال: كان ابن عباس في العلم بحرا ينشق له الأمر من الامور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل " فلما عمي، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم وعلمه - أو قال كتب من كتبه - فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يقدم ويؤخر، فلما رأى ذلك، قال: إني قد تهلت من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فليقرأ علي، فإن إقراري له كقراءتي عليه.
قال فقرؤوا عليه.
تلهت: تحيرت، والاصل ولهت كما قيل في وجاه تجاه ..
ولعل هذا يفسر سبب كراهيته للكتابة في الرواية التي ذكرها البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى قال: عن طاوس، قال: (كنا عند ابن عباس قال: وكان سعيد بن جبير يكتب قال: فقيل لابن عباس: إنهم يكتبون قال: أتكتبون؟ ثم قام، قال: وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام).
وهذا يدل على تورعه رضي الله عنه، وحرصه على أن لا يلقي ما لم يتيقن منه، فالعلم دين.
عاشرًا: حرصه على تعليم الناس
وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يغشى الناس في رمضان وهو أمير البصرة فما ينقضي الشهر حتى يفقههم. وهذا لا ينافي ما سبق من بيان منهجه؛ لأن اختياره لهذا الشهر يدل على حسن اختياره؛ لأن الناس يكونون مقبلين على العلم، فضلاً عن أن الناس يفرحون بغشيان أمرائهم لمجالسهم، كيف إذا كان الأمير عالمًا أيضًا.
وبعد، فهذه وقفات من سيرة ابن عباس العلمية، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[14 May 2007, 07:35 ص]ـ
جزاكم الله خيراًُ يا أبا عبدالملك على هذه الفوائد والاستنباطات التربوية والعلمية الموفقة، ورضي الله عن ابن عباس وجمعنا به في جنات النعيم، فنعم المعلم والمربي كان.
ـ[الجعفري]ــــــــ[15 May 2007, 05:36 ص]ـ
جزاك الله خيراً شيخنا الشيخ مساعد ووفقك الله لرضاه وثبتك على الحق وجميع الأخوة في هذا المنتدى المبارك.
ـ[عبدالعزيز الضامر]ــــــــ[15 May 2007, 04:34 م]ـ
جزاك الله خيراً يادكتور على هذه الإضافة المتميزة, وأتمنى أن يكون هذا الموضوع ماثلاً في كتابٍ بين أيدينا نقلبه ونتصفحه بين الفينة والأخرى, فما قولكم دام فضلكم!!
ـ[ابو الروب]ــــــــ[19 Aug 2007, 08:59 م]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[فهد الوهبي]ــــــــ[27 Aug 2007, 09:40 م]ـ
جزاك الله خيراً يا دكتور على هذه الاطلالة العلمية التربوية ...
ومن ثناءه على طلابه ثناؤه على سعيد بن جبير:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا أهل الكوفة تسألوني وفيكم سعيد بن جبير.
طبقات المفسرين للداودي: (1/ 188).