ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: (سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة؟
قال: فاتهمه، فقيل له فيه، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني!
فقال: هما يومان ذكرهما الله جلّ وعزّ، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم).
ومن فوائد هذه الآثار:
1 ـ إن إعلان العالم عدم علمه بمسألة من مسائل العلم ليس منقصة في حقه، بل هو رفعة له، تدل على كماله في علمه.
2 ـ كما أن إعلان العالم عن جهله بهذه المسألة فيه تدريب عملي لطلابه بأن لا يفتوا بما لا يعلمون، وأن يقفوا عند ما يعلمونه ولا يتعدونه، وقد طبق ذلك في السؤال الذي الذي سأله عنه الرجل عن يوم كان مقداره ألف سنة، وقد صرح له بسبب عدم جوابه (وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم).
سادسًا: سماحته مع طلابه، وكرم نفسه معهم
قال الطبري: حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: سئل عنها ابن عباس، فقال ابن جبير: هم قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة، قال: فنزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال:"إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها").
ومن فوائد هذا الأثر:
1 ـ كريم خلقه رضي الله عنه، إذ لم يعتب على تقدم تلميذه عليه في الجواب.
وأما سماحته وكرم نفسه فقد شهد له بذلك فئام ممن رآه، ومن ذلك ما وقع معه من مخالفة تلاميذه له في الكتابة عنه، ففي المدخل للبيهقي: عن طاوس، قال: (كنا عند ابن عباس قال: وكان سعيد بن جبير يكتب قال: فقيل لابن عباس: إنهم يكتبون قال: أتكتبون؟ ثم قام، قال: وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام).
2 ـ حسن لفظه في بيان خطأ تلميذه، فلم يقل له: (أخطأت)، بل قال: (عجلت)، وهي ألطف وأحسن من الأولى، ويعجبني في مثل هذا المقام ما كان يقوله بعض أساتذتنا ـ إذا كان الجواب خطأ ـ: (كلامك صحيح، وجوابك خطأ) ففي ذلك تلطيف وتخفيف على الطالب.
3 ـ إن تقدُّم الطالب على شيخه في الجواب لا يلزم أن يكون من سوء خلق الطالب البتة، بل الحال يختلف من وقت إلى وقت ومن تلميذ إلى تلميذ إلى غير ذلك، وليس المقصود أنه يجوز مثل هذا الحال مطلقًا، لكن المقصود أن مثل هذا لا يلزم أن يكون سوء أدب مع الشيخ.
والمقصود أن الأحوال تختلف، ولو حدث هذا عند بعض العلماء لعده بعضهم سوء أدب والأمر ليس كذلك، ولكل شيخ طريقة.
سابعًا: مراعاة أحوال السائلين
قال الطبري: حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمي الأشعري، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي، عن سعيد بن جبَير، قال: قال رجل لابن عباس (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) ... الآية، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر.
ومراده بالكفر: التكذيب، كما شرح ذلك في الرواية الأخرى، قال الطبري حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
وقد فسرها في رواية أخرى عنه، قال الطبري:: حدثني عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس، قال في هذه الآية: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) قال عمرو: قال: (في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ سماء إبراهيم).
وإذا تاملت إلى غرابة هذا التفسير؛ بان لك خوف ابن عباس من تكذيب السائل.
¥