ومما يدلك على عظيم عنايته بالسياق ودقته في استخراجه أنه يجادل أهل البلاغة الذين هم أكثر الناس علماً بالسياق، فتراه ينتقد الزمخشري في ذلك فيقول في بيان المراد بالصبغة وموقعها الإعرابي في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً} [البقرة 138] "هذا متصل بالقول المأمور به في {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ} [البقرة 136]، وما بينها اعتراض كما علمت، والمعنى: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على الأنبياء من قبل إيماناً صبغة الله .... وانتصابه على أنه مفعول مطلق نائب عن عامله أي صبغنا صبغة الله، أو منصوباً وصفاً لمصدر محذوف دل عليه فعل {آمَنَّا بِاللّهِ} والتقدير: آمنا إيماناً صبغة الله، وهذا هو الوجه الملائم لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة، وما ادعاه صاحب «الكشاف» من أنه يفضي إلى تفكيك النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ؛ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك" ([14]).
عاشراً: أصحاب المدرسة العقلية:
يعتبر أصحاب المدرسة العقلية من أبرز من اعتمد السياق في التفسير وجعله حجة على غيره.
ويؤكد ذلك صاحب المنار فيقول: "وأن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ؛ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته" ([15]).
ومما يؤكد عناية هذه المدرسة بالسياق أنه قد كتبت دراسة مستقلة عن عناية المدرسة بالسياق، وهي بعنوان: (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة) للدكتور سعيد الشهري، وقد أبرز فيها منهجهم من حيث عنايتهم بالسياق، وقرر ذلك بالأمثلة المستفيضة.
ومن أهم ما خرج به من النتائج بيان ما وقع فيه أصحاب هذه المدرسة من خطأ في الاستدلال بالسياق، من جهة لويهم للسياق على حسب ما يتوافق مع منهجهم العقلي. فقال في خاتمة رسالته: "قرر رجال المدرسة العقلية قواعد السياق تقريراً نظرياً فأجادوا وأحسنوا، لكنهم نقضوا ذلك حينما تصادمت مع أفكارهم وعقولهم - ويقول - إن السبب الرئيس في اضطراب رواد هذه المدرسة العقلية، هو تقديس العقل، وإبطال أو تأويل ما خالفه، سواء كان من الكتاب أو من السنة" ([16]).
ويقول صاحب رسالة السياق القرآني وأثره في الكشف عن المعاني: "لقي السياق من مدرسة المنار عناية خاصة، فقد فتحت له الباب على مصراعيه، وقدمته على غيره من قرائن التفسير، ووسعت دائرة الاستعانة به لأسباب كثيرة تتناسب مع توجهات المدرسة بعامة، لعل من أبرزها أن التفسير بالمأثور لم يكن أكثره محل ثقة المدرسة حتى الأحاديث النبوية منه، وهذا يأذن لهم بالإعراض عن تفسير السابقين بخاصة المأثور منه، وفي هذا يقول الأستاذ محمد عبده ([17]) (لا حاجة لنا في فهم كتاب الله إلى غير ما يدل عليه بأسلوبه الفصيح) " ([18]).
والحق أن سبب اضطراب المدرسة ليس هو تقديم السياق على غيره من القرائن، وإنما هو بسبب إغفال جوانب رئيسة منها الأحوال التي نزلت فيها الآية ومن أهمها أسباب النزول فإنهم ردوا كثيراً منها، مما جعلهم يجانبون الصواب في تحديد السياق.
ومن أمثلة خللهم في الاستدلال بالسياق تفسيرهم لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ .. } [البقرة 243] فقد فسروا الموت بالتيه والصغار وزوال عزهم، وفسروا الحياة بالخروج من التيه، وعودة العزة والكرامة لهم. واعتمدوا في تفسيرهم هذا على السياق، وهو أن السياق في الحث على الجهاد والتحريض عليه، وليس في مقام الحديث عن البعث والنشور ([19]).
وحسبنا دليلاً على بطلان هذا التفسير أنه مخالف لما أجمع عليه المفسرون، فضلاً عن أن السياق في الآية ملتئم تماماً مع تفسير الحياة والموت على الحقيقة؛ لأن السياق في تحذير المؤمنين من ترك الجهاد خوف الموت، وقد نصت الآية على خروجهم من ديارهم حذر الموت، لما دعوا للقتال، فأماتهم الله ليبين لهم أن الحذر لا يغنيهم. وما دفع أصحاب المدرسة العقلية إلى تجاهل المعنى الحقيقي مع وضوحه في السياق إلا التفسير العقلي.
الحادي عشر: سيد قطب في (في ظلال القرآن).
سيد قطب من أبرز المفسرين الذي جعلوا السياق عمدة التفسير، وقد اعتمده في بيان السياق العام للسورة الذي يمثل غرض السورة ومحورها الأساس.
¥