كما خطت رؤوس السور بالإجازة مع رسوم مرصعات على الهوامش تحمل شارات الأجزاء والأحزاب والسجدات، وقد طبع هذا المصحف باسطنبول بإشراف سليمان سامي إجلين سو، في مطبعة بوس قورد سنة 1386.
كما طبع مصحف آخر لآخر خطاطي العهد العثماني حامد الآمدي، وقد طبع فيه لفظ الجلالة باللون الأحمر، ليظهر لفظ الجلالة واضحاً من خلال النص، وهذه السنة في التمييز كانت سائدة في المصاحف المملوكية، ولكنهم كانوا يحلون لفظ الله بالذهب المسور بمداد السناج.
تعد النسخة هذه التي كتبها حامد من النسخ البديعة الجميلة، والنسخ فيها يختلف عن أساليب من سبقوه، إذ خط كتابته بقلم النسخ المتوسط، ولم يغلظ في القلم، كما هو عند مصطفى نظيف، ولم يرقق كما هو الحال في مصاحف الحافظ عثمان وحسن رضا وشوقي وغيرهم، وإنما توسط في قطة قلمه، وليأتي المصحف على يديه بأسلوب تميز فيه عمن سبقوه، فخط أجمل الكلمات بأحلى الخطوط، وبأروع اتساع منظوم كالعقد الجمام.
إذا كانت آيات القرآن العظيم قد خطت منذ البعثة على مواد متفرقة ثم جمعت في مصحف فإن نساخ المصاحف لم يقتصروا في كتاباتهم على المصحف الشريف، وإنما أخذوا منه آيات الحكمة وهو كله حكمة، وأبرزوها ضمن لوحة أو صفحة خاصة لتكون متعة للتأمل والتبصر، وليرتفع مقدار الجمال عند الخطاط بكتابة آياته الكريمة ضمن تشكيلات وتكوينات جذابة رائعة.
فهذا هو حامد الآمدي الذي خط المصحف المذكور يترك لنا تراثاً هائلاً من كتابته لآيات القرآن العظيم، ليس في الصحف فحسب، بل وبلوحات مستقلة أيضاً تحمل البشرى أحياناً والوعيد أخرى.
ونقرأ في مصحف حامد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم: ? وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) ? [النازعات: 1: 9].
ونلاحظ أسلوب حامد في كتابة خط النسخ الذي مزج فيه بعدة أساليب ثم انفرد فيه بنكهة خاصة، دلت على تمكنه وعمقه في فن الخط المصحفي.
إن لوحة وبخط خطاط شهير تحمل آية من القرآن العظيم أصبحت اليوم تنافس أشهر لوحات فناني أوروبا بل وتفوقهم في سحر الجمال وجمال المادة.
لقد خط حامد سورة "الفاتحة" وقلد فيها راقماً وجاءت اللوحة على أتم الحروف وأكمل البنيان، وهي بالثلث الذي غدا أكثر الخطوط فناً ووقاراً وهيبة.
كما نلاحظ الجمال في حروف الثلث للوحة خطها الحاج أحمد الكامل، وفيها:
بسم الله الرحمن الرحيم ? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ? [القدر].
لقد كتب بقلم أغلظ من قلم الثلث، بل ويقابل الثلثين، ولا يعد هذا النوع من الكتابة ثلثاً وإنما يطلق عليه اسم الثلث المشبع.
وفي اللوحة ما هو تقليدي على أسلوب العثمانيين في الكتابة والزخرفة، التي غدت ترافق لوحات آيات القرآن العظيم في جميع ما يكتب.
آلاف اللوحات خطت بأقلام متعددة، وكلها يحمل آيات القرآن العظيم ضمن تشكيلات جميلة رائعة.
ولئن كان القرآن العظيم في القرون الخالية مخطوطاً ضمن صفحات المصحف الشريف فإنه ومع مرور الزمن فقد اعتلى جدران المساجد وأروقة البيوت، وغدا من أبرز العناصر الفنية التي استعملها الخطاط المسلم ضمن تشكيلات فيها الرونق والهيبة والإجلال والتعظيم.
هذا هو المصحف الشريف، وتلك هي رحلة القرآن العظيم، التي امتدت عبر قرون مر فيها على أصقاع الأرض، وامتلأت به خزائن متاحف الأرض.
طرز شتى، وخطوط شتى من يابس إلى لين ومن مبسوط إلى مقور، ومن كوفي محقق إلى نسخي بديع، ومن ريحان إلى توقيع، في كل حرف منه خلجة وبكل آية وقعة، ولكل سورة تأطير، إنه الوحي الذي سيظل في هذه الأرض تتردد أصداؤه بألسنة العباد، وتلهج له القلوب، في السحر والسمر .. ? وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ? [الشعراء: 192: 194].
ـ[الجعفري]ــــــــ[15 Aug 2007, 05:39 ص]ـ
جزاكما الله خيرا