فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلا تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر. ولا كل ما نسمعه أو نراه نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح.
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر، فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان والمكان والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون – وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة –وإلا طرحناه. ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بينة من خيره وشره، ونفعه وضره. فما أمر تعالى إلا بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلا عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلا تركناه. فلا تكون عقائدنا –إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلا حقاً. ولا تكون أقوالنا إلا صدقاً. ولا تكون أفعالنا إلا سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، وإلا بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
المعنى:
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق، وأقوال الصدق، وأفعال السداد. فأما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه. وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك. وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل: إذ ليس كل قول صدق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته: لأنها غيبة محرمة، ولا يجابه بها في حضوره لأنها أداة؛ إلا إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ. وهكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها، أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
تفريع:
الفرع الأول:
من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور .. فهو آثم من جهتين:
1. اتباعه ما ليس له به علم.
2. واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور.
ومن اعتقد حقاً من غير علم، أو قال في الناس صدقاً عن غير علم، أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه –مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي اتباعه ما ليس له به علم، ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني:
المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم، لتحصيل هذا الاستدلال له العلم.
والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها، يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم، ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام، بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم، وما رفع عن العاجز من الإصر، وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.
نصيحة على هذا الفرع:
أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائد الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أ يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائد سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه. أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المكلفين الصعبة ذات العبارات اصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه. لقد كان من نتيجة ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
¥