تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهذا هو الذي يجعلُنِي أشكُّ في صحّةِ الحديث المرْوِيِّ عن ابنِ عبّاسٍ ? وعن أبيه أنّ القرآنَ نَزَلَ جُمْلَةً واحدةً إلى السماءِ الدنيا في بيتِ العزَّةِ، وهذا يحتاجُ إلى أحاديثَ صحيحة لا شكَّ فيها حتّى نضطرَّ إلى تأويلِ الآياتِ التي تدلُّ على أنّ القرآنَ نَزَلَ بعد حُدوثِ الحوادث التي يتكلَّمُ الله عنها ". ()

ولِيَ مع كلامِ الشيخِ المتقدِّم الوَقَفاتُ التالية:

الوقفة الأولى: اختياره أنّ المرادَ بالإنزالِ هو: ابتداءُه، هو أحد الأقوالِ في معنى النزولِ للجمعِ بينَ ما تقرَّرَ مِن إنْزالِ القرآنِ مُنَجَّمًا وبينَ الآياتِ الدّالّةِ على إنْزالِه في ليلةٍ واحدةٍ، وهو قَوْلُ الشعبيِّ () رحمه الله (). وهو جَمْعٌ حَسَنٌ به تجتمعُ الأدلّةُ، لكنه لا يُعارِضُ أثرَ ابنَ عبّاسِ رضي الله عنهما؛ كما سيأتي.

الوقفة الثانية: أثرُ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما صحيحُ الإسْنادِ، صحّحهُ جَمْعٌ مِن الأئمةِ كما تقدّم في تخريجه، ومِثْلُه إخبارٌ بأمرٍ غَيْبِيٍّ لا يُصارُ إلى مِثْله إلاّ بِتَوْقِيفٍ فلهُ حُكْمُ الرَّفْعِ (). ولِذا فانتقادُ الشيخِ ابن عثيمين رحمه الله للأثرِ إنّما هو مِن جهة مَتْنِه كما دلَّ على ذلك كلامُه، وعندي أنّ هذا الانتقادَ لا يُسلَّم؛ لأنّه ليس في أثرِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما ما يدلُّ على أنّ الله لَمْ يتكلَّم بالقرآنِ حالَ إنْزالِه؛ بل غايةُ ما فيه أنّ للقرآنِ تَنَزُّلان:

الأول: مِن اللّوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا.

وهذا يكون مِن مَكْتُوبٍ إلى مَكْتُوب فلا إشكال فيه ولا فَرْقَ بين أنْ يكون في اللوح المحفوظ أو يكونَ في السماء الدنيا ثمّ يتكلَّمُ الله به ? إذا أرادَ إنْزالَهُ.

الثاني: الوحْيُ؛ وهو إنْزالُه إلى محمدٍ ? بواسطةِ جبريلَ ?؛ كما قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما في إحدى الرواياتِ للأثرِ السابق:" فكانَ الله إذا أرادَ أنْ يوحِيَ مِنه شيئًا أوْحَاه ". ()

فدلَّ هذا الأثرُ على أنّ الله تعالى يتكلَّمُ به حقيقةً حينَ إنْزالِه، ولِذا فإنّ تضْعِيفَ الشيخِ ابن عثيمين لهذا الأثرِ يسْتقِيمُ لو دلَّ على أنّ الله لا يتكلَّمُ بالقرآنِ حالَ إنْزالِه؛ أما وقد ورَدَ الأثرُ بخلافه أو على الأقلِّ عدَمَ التعرُّضِ لطريقةِ إنْزالِه إلى النبيِّ ? فلا يستقِيمُ ما أوْرَدَهُ وبالله التوفيق.

الوقفة الثالثة: سببُ رَدِّ الشيخِ ابن عثيمين رحمه الله لهذا الأثرِ هو جانبٌ عَقَدِيٌّ؛ حيثُ ظنَّ طائفةٌ مِن المتكلِّمينَ وغيرهم مِمّنْ ينفونَ صفة الكلام عن الله ? أنَّ لهم في هذا الأثرِ مُسْتَمْسكًا إذْ أثبتوه وفهموا مِنه أنّ للقرآنِ نُزولَيْن:

الأول: مِن اللوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملةً واحدة.

الثاني: مِن السماء الدنيا إلى الأرض على النبيِّ ? مُفرَّقًا بواسطة جبريلَ ?.

ورَجَّحَ هذا الفَهْمَ أكثرُ مَن تكلَّمَ في علومِ القرآنِ كالزركشيِّ ()، وابن حجرٍ ()، والسيوطيِّ ().

ومِن المعاصرين: الزرقانيُّ ()، ومحمد أبو شهبة ().

ولعلَّ سببَ فهمهمْ ورُودُ بعضِ الرواياتِ بـ[ثُمَّ] الدّالّةِ على التعقيب والترتيب؛ حيث أوْرَدَ السيوطيُّ نقلاً عن ابن أبي شيبةَ () في فضائل القرآن () الروايةَ التالية: " دُفعَ إلى جبريلَ ? في ليلةِ القدْر جُملةً واحدة فوضعهُ في بيتِ العزَّةِ، ثُمَّ جعلَ يُنَزِّلُهُ تنزيلاً ". ()

وهذه الرواية وأمْثالها مُعارَضةٌ برواياتٍ أخرى تدلُّ على أنّ النزولَ الثاني إنّما كانَ وَحْيًا مِن الله تعالى؛ ولِذا فقوْلُنا بصحّةِ الحديث ليس معناه القوْلُ بصحّةِ جميع ألفاظه الواردة في رواياته وطُرُقِه.

وعليه فلا يصحُّ أنْ يُفهم أنّ النزولَ الثاني كانَ مِن السماء الدنيا كما تدلُّ عليه هذه الرواية، بلْ ولا مِن اللوحِ المحفوظ، بلْ الحقُّ والذي تدلُّ عليه الدلائلُ مِن الكتاب والسنّة أنّ الله تكلَّم بالقرآنِ حقيقةً وأوْحاهُ لنبيّه ? بواسطة جبريلَ ?.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير