- فمن ذلك أن الراغب لم يشر في مقدمة "المفردات" إلى اسم له محدد وواضح، وإنما قال – بعد أن نبه على مركزية الألفاظ المفردة في الخطاب القرآني، ومركزيتها في بنية العلوم عموما -: " وقد استخرت الله تعالى في إملاء كتاب مستوفى منه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي ... والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب" (11).
ففي هذا النص تحديد لموضوع الكتاب ومادته، وبيان للمنهج المتبع في جمعها وتصنيفها وترتيبها وعرضها. كما أن تعبير الراغب بلفظ "الاستيفاء" يؤكد قصده إلى استيعاب جميع ألفاظ القرآن بحيث لم يقصر اهتمامه على ألفاظ دون أخرى، ولم يشر إلى غريب ولا إلى غيره.
ولا يقدح في أصل المسألة أن يكون قد فات الراغب بعض الألفاظ مما نبه عليه السمين الحلبي (ت، 756هـ) في "عمدة الحفاظ" (12)، ومحقق المفردات الدكتور صفوان داوودي، فهي ألفاظ معدودة على رؤوس الأصابع كما يقال!!.
- ومن ذلك أن كتاب المفردات يختلف كثيرا عن كتب الغريب كتفسير غريب القرآن لابن قتية (ت، 276هـ)، وتفسير غريب القرآن المسمى بترهة القلوب لابن عزيز السجستاني (ت، 330هـ) وغيرهما. بل إنه يختلف عن كتب معاني القرآن كما هي عند الفراء (ت، 207هـ) والزجاج (ت، 311 هـ) والمجاز لأبي عبيدة (ت، 210 هـ) وغيرهم، حيث تلحق عادة بكتب الغريب، أو تلحق هي بها.
وهذه الكتب تهتم بالجانب اللغوي وتعنى بالغريب غاية العناية أكثر من أي شيء آخر. في حين يجتمع عند الراغب اللغة عامة ولغة القرآن خصوصا والمصطلح أيضا. وهنا ينبغي التفريق بين كون المفردات متضمنا للغريب – وهو ما لا يمكن إنكاره – وبين كونه كتابا في الغريب، وهما صنفان بينهما بون شاسع.
- ومن ذلك أيضا أننا عندما نتأمل – بعناية – في مقدمة المفردات فإنا نجد الراغب متطلعا إلى بناء "نظرية" في علم بيان القرآن. وقد نص على أن كتابه هذا جاء في سياق تأليفي مقصود ... فقبله كانت "الرسالة المنبهة على فوائد القرآن". ثم كتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة". قال: "وذكرت – أي في تلك الرسالة – أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، .. وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع". ثم قال: "وأتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد وما بينها من الفروق الغامضة" (13).
ويضاف إلى هذا أنه توسع في العلوم اللفظية بمباحثها المختلفة في مقدمة تفسيره (14).
ويفهم من قول الراغب السابق: "والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"، أن كتاب "المفردات" – في مداه الحقيقي الذي يتصوره المؤلف – أعمق وأوسع مما هو عليه الآن. وذلك لأن استخلاص دلالة اللفظ القرآني يستلزم النظر إليه اعتمادا على:
- ملاحظة الفرق بين اللفظ ومرادفه بحسب دلالة اللغة ثم بحسب الاستعمال القرآني.
- رصد اختلاف دلالة اللفظ الواحد تبعا لاختلاف السياق.
-رصد اختلاف المعاني وتنوعها بسبب اختلاف الاشتقاق والتصريف.
-ولا شك في أن مراعاة كل ذلك يستلزم أعمارا متعددة وأعمالا ضخمة جدا نظرا لخصوصية النص القرآني المعجز.
لقد كان الراغب على وعي تام بذلك المدى الواسع، ولكنه ربما نظر في ما يستقبل من عمره فرآه غير كاف لإنجاز هذا المشروع الضخم فاكتفى بالتنبيه والإشارة ... وفي ذلك علامة ومنارة!!.
إن اهتمام الراغب إذن بتحقيق الألفاظ المفردة وارد ضمن نسق معرفي محكم. ولعل من مظاهر هذا النسق امتداد العناية به من تحقيق ألفاظ القرآن الكريم إلى التنبيه والاهتمام – ضربا من الاهتمام – بتحديد اصطلاحات العلوم. يقول: " وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع، فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم. وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة" (15).
¥