ففي هذا النص تتجلى محورية اللفظ القرآني في بنية العلوم الإسلامية والعربية، وقد بنى عليها الراغب تصوره لتصنيف العلوم التي يأتي على رأسها "علم القرآن" (هكذا بالمفرد! وفيه دلالة خاصة) ثم تليه علوم الشرع التي نشأت حوله.
ويتجلى في النص أيضا خطر اللفظ في علم القرآن وخطر المصطلح في علوم الشرع، بل في سائر العلوم. ولعل هذا هو ما يدفع بعض العلماء والباحثين إلى القول باصطلاحية ألفاظ القرآن لما يلاحظ من تميز وخصوصية في دلالاتها الاستعمالية في الخطاب القرآني.
ومن هذه النافذة يمكن أن نطل على مظهر عظيم من مظاهر التداخل بين علم القرآن وهو الوحي، وبين العلوم التي أسسها العقل المسلم استنادا إلى الوحي بيانا وتبينا. ونطل بعد ذلك على مظهر من مظاهر التداخل والتكامل بين تلك العلوم ذاتها نظرا لوحدة مصدرها.
المصطلح في "المفردات":
لقد أورد الراغب رحمه الله تعالى في هذا الكتاب عدة مصطلحات في علوم مختلفة تزيد على خمسين ومائتي مصطلح معرف، فضلا عن المصطلحات التي ذكرها من غير تعريف. وفي هذا دلالة على إحساس قوي بقيمة المصطلح وضرورة تعريفه وتحقيقه. وفيه دلالة أيضا على أن استحضار الدلالة القرآنية للألفاظ مفيد جدا في تحقيق مصطلحات العلوم.
فمن مظاهر ذلك تصحيحه لما ذهب إليه أصحاب الشافعي رضي الله عنه من أن الطََّهور بمعنى المُطهِّر، قال: "ذلك لا يصح من حيث اللفظ لأن فعولا لا يبنى من أَفْعَل وفعَّل، وإنما يبنى ذلك من فَعُلَ. وقيل: إن ذلك اقتضى التطهير من الثوب، فإنه طاهر غير مطهر به، وضرب يتعداه فيجعل غيره طاهرا به، فوصف الله تعالى الماء بأنه طهور تنبيها على هذا المعنى". ذكر الراغب هذا عند حديثه عن قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (الفرقان: 48) (16).
ومن هذا القبيل تلك الوقفة الدقيقة التي وقفها مع مصطلح "المجمل" حين قال: "وقول الفقهاء: "المجمل ما يحتاج إلى بيان" فليس بحد له ولا تفسير، وإنما هو ذكر أحد أحوال بعض الناس معه، والشيء يجب أن تبين صفته في نفسه التي بها يتميز، وحقيقة المجمل هو المشتمل على جملة أشياء غير ملخصة" (17).
فانظر إلى تنبيه الذكي على ذلك الشرط الضروري في التحديد والتعريف!
ويلاحظ أن المصطلحات التي أوردها الراغب تنتمي إلى عدة علوم، وتتنوع بين:
- مصطلحات في الفقه كالطهارة والصلاة والزكاة وبيع الغرر وبيع العرايا والرهن والمضاربة والتعزير والمناسخة في الميراث.
- ومصطلحات في الأصول كالمشكل والبيان والمبهم والمحكم والمتشابه والضروري والفرض الواجب المحظور والحكم والتخصيص والإجماع والاجتهاد والنسخ وغيرها.
- ومصطلحات في العقيدة والكلام والمنطق: كالإسلام والإيمان والفسق، والذات والرجعة والعصمة والإرادة والمشيئة والعرض، والنظر والقياس والمناظرة والبرهان والحال والوجود.
- ومصطلحات أخرى في اللغة والطب وغيرهما.
ويلاحظ من جهة أخرى أن تلك المصطلحات تتنوع – بحسب صورها في علاقتها بالقرآن الكريم إلى أنواع:
- فنوع ورد في القرآن بصيغته وصورته ثم استعمل في أحد العلوم، كمصطلح البيع مثلا فإنه ورد في القرآن الكريم ثم خصص له باب في الفقه مشهور، وباعتبار ما ضم إليه فقد يذكر مجموعا لاندراج أنواع وأصناف من البيع تحته كبيع المقايضة والبيع بالمراسلة وبيع المضطر وبيع الغرر ... وغيرها. (18)
- ونوع لم يرد بصورته لكن يرجع في أصله إلى القرآن، فمن ذلك مصطلح الملاعنة (19)، وهو باب معروف في الفقه أيضا، ولم يرد بهذه الصورة
في القرآن، لكنه استفيد من قوله تعالى في أن الرجل يقول في الخامسة: {أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} (النور: 7). ومثله مصطلح التذكية (20).
- ثم هناك نوع آخر لم يرد في القرآن الكريم ولا هو مستفاد منه لكنه مشتق من مادة اللفظ الذي هو بصدد تعريفه، فيورده على سبيل الفائدة. فمن ذلك مصطلح المخاضرة وهي "المبايعة على الخضر والثمار قبل بلوغها" (21). وهذا المصطلح لم يرد في القرآن ولا يظهر أنه مستفاد من نص قرآني في باب البيوع من الفقه، ولكنه ورد في الحديث الذي رواه انس بن مالك رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة" (22).
وقد أورد الراغب هذا المصطلح في شرحه لما تفرع عن مادة "خضر" في القرآن: كـ (مخضرة) و (خضرا).
¥