تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وصار من المألوف في أي كتاب يتحدث فيه مؤلفه عن ترتيب القرآن أن يذكر هذين القولين في هذه المسألة ويحشد لكل منهما عددا من الروايات الداعمة. ويضيف البعض قولا ثالثا يقول أصحابه أن ترتيب بعض سور القرآن توقيفي وبعضها اجتهادي , ولعل أصحاب هذا الرأي حسبوا بذلك أنهم قد وفقوا بين القولين السابقين فاتخذوا موقفا وسطا جامعا. وهو رأي لا يستند إلى منطق يقبله العقل: فإذا كان الرسول (ص) قد قام بترتيب 112 سورة كما يقولون , فهل عجز عن سورتين؟ ولذلك فأنا أستبعد هذا القول الثالث نهائيا.

فإذا عدنا إلى القولين السابقين وجدنا أنهما حقيقة قولا واحدا يؤديان إلى رأي واحد وهو أن ترتيب القرآن توقيفي وما كان إلا بالوحي .. ولا مبرر لهذه الثنائية.

ونفهم مما سبق: أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للصحابة من بعده رضي الله عنهم جميعا أي دور في ترتيب القرآن , اللهم تنفيذ التوجيهات التي كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم , والنبي بدوره ينقلها إلى كتبة الوحي ..

الترتيل يعني الترتيب:إن فهمنا لظاهرة الترتيب القرآني يجعلنا نجد متسعا في تفسير " ورتلناه ترتيلا " في قوله تعالى في سورة الفرقان:

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) أي: رتبناه ترتيبا محكما، دون أن نقتصر على معنى التجويد وتحسين التلاوة كما هو في المفهوم السائد , ونذهب إلى أن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله هي: التثبيت.

[الحقيقة أن معنى الفعل رتل (الجذر اللغوي) في اللغة هو نضد ونسق ورتب، فالترتيب هو الأصل في اللغة، وما جاء بعده من المعاني (التجويد وتحسين التلاوة) فهي مشتقة منه، وهل يعني تجويد التلاوة غير الترتيب في التلاوة؟!]

وبما أن هذا الترتيب (ترتيل الآيات وجمعها في تشكيلات محددة) لن يظهر قبل اكتمال نزول القرآن , وقد يتأخر الكشف عنه إلى زمن ما غير زمن نزول القرآن , فالتثبيت هنا هو " تثبيت مستقبلي " يعنى بالمستقبل والأجيال والمؤمنين في العصور القادمة , وانه مرتبط بالكشف عن أسرار ترتيب القرآن. وفي حالة حدوث ذلك , سيجد فيه المؤمنون " تثبيتا " جديدا لهم , كما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون – في الزمن الماضي – في نزول القرآن مفرقا ما يثبتهم.

في المرحلة الأولى: ارتبط نزول القرآن حسب الوقائع والأحداث وحاجات الناس , بما يحقق التثبيت الملائم والمناسب لتلك المرحلة.

في المرحلة التالية: حيث يتم التشكيل النهائي والموجه للترتيب (ترتيب التلاوة الآن) فارتباط الآيات هنا يتجاوز الأحداث والوقائع إلى ارتباطات جديدة وعلاقات جديدة – لم تكن معروفة من قبل -, ويستند إلى قوانين وأسس وقواعد , تناسب هذه المرحلة , والمراحل التالية لها , وتخاطبها بما يلائمها ويحقق " التثبيت " أيضا.هذه القوانين والأسس تحديدا: قوانين رياضية لغتها العد والإحصاء والأرقام لغة هذا العصر.

وبالمنظور نفسه , فان الرد القرآني على اعتراض المشركين على تنجيم القرآن " نزوله مفرقا " ومخالفته للمألوف, يتسع هو الآخر ويمتد متجاوزا زمن الاعتراض الأول (زمن النزول) إلى زمن الاعتراض التالي (المستقبلي) , حيث سيكون ترتيل القرآن (ترتيبه) هو الرد القرآني الذي يناسب هذه المرحلة , ويتولى دفع ما يجد من شبهات وافتراءات المشككين بالقرآن.

معجزة الترتيب القرآني:

بعبارة أخرى: لقد ادخر القرآن معجزة ترتيبه للعصور والأجيال القادمة حيث تسمح ظروف العصر ومعارفه بادراك تلك المعجزة وكشف أسرارها. وبذلك يمكننا أن نتصور أن ترتيب القرآن قد تشكل بالتدريج تبعا للتوجيهات التي كان ينقلها جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم , ومراحل إدخالها في التشكيل , واستحداث مواقع جديدة لها , لغايات مستقبلية , وأن المستهدفين بترتيب القرآن هم الناس في هذا العصر على اختلاف مذاهبهم ولغاتهم.ذلك أن لغة الترتيب هي لغة الأرقام لغة هذا العصر , اللغة العالمية التي يشترك فيها الناس جميعا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير