إن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هؤلاء الواهمون بإمكانية محاكاة أسرار القرآن العددية في ترتيبه أنهم يتجاهلون الطريقة التي نزل بها القرآن. لقد نزل القرآن مفرقا حسب الأحداث والوقائع وحاجات الناس في ثلاث وعشرين سنة، ثم رتب في النهاية على نحو مغاير تماما لترتيب نزوله .. ورغم هذه المغايرة فالذي لا يعرف طريقة نزول القرآن منجما يظنه قد نزل مرتبا على النحو الذي هو عليه الآن ..
والسؤال هنا: كيف نفسر ما نكتشفه من الترتيب المحكم بكل صوره في القرآن، وانتهاء القرآن إلى هذا النحو من الإحكام – الجانب العددي أحد صوره – رغم نزوله مفرقا مسايرا الأحداث والوقائع وحاجات الناس؟!
لنطبق الآن طريقة ترتيب القرآن:
ليجتمع من شاء من عباقرة العلماء، يقع زلزال مدمر في مكان ما، فيكتبون عنه ما يريدون. تغزو أمريكا إحدى البلدان فيكتبون ما شاءوا ويتركونه لنا. تجتمع الأمم المتحدة وتعد وثيقة جديدة لحقوق الإنسان، فيكتبون عن هذا الحدث نصا ما ويقدمونه لنا .. ويستمرون في هذا العمل ما يكفيهم من الوقت .. فإذا انتهوا من كل ذلك، جمعنا ما كتبوه، ولهم أن يرتبوا نصوصه كما يحبون ..
السؤال: هل سينتج لدينا نصا محكما في ترتيبه؟ هل سنجد بين فقراته أو موضوعاته ما نجده من العلاقات الرياضية بين سور القرآن وآياته وكلماته؟
إنه المستحيل ...
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فالذين يحسبون أن محاكاة ترتيب القرآن والعلاقات العددية بين سوره وآياته، أمرا في متناول البشر، إنما ينطلقون من نظرة تجزيئية إلى ترتيب القرآن، وحقيقة المسألة ليست على هذا النحو الذي يقتصر على علاقة أو حتى عشرة، يجب أن يكون الحكم صادرا عن تصور شامل للترتيب القرآني، وهو ما ليس متوفرا لدى احد من الناس.
ولتوضيح هذه النقطة:
ذكرت في ترتيب سور الفواتح أن سورة القلم هي السورة الوحيدة التي جاء ترتيبها في النصف الثاني من القرآن .. بينما جاء ترتيب السور الـ 28 الباقية في النصف الأول.
مقابل ذلك: عدد السور التي عدد الآيات في كل منها أقل من 17 آية 29 سورة، 28 سورة جاء ترتيبها في النصف الثاني وواحدة فقط في النصف الأول والتي هي سورة الفاتحة. لاحظ التوازن: 28 و 1 ثم 1 و 28 ..
هنا قد يقول معترض: إن في وسع مؤلف أن يراعي شكل هذه العلاقة في كتاب من تأليفه ....
هذا الحكم المتسرع بناه صاحبه على جزء من ظاهرة الترتيب في سورة القلم ..
فلو عدنا إلى سورة القلم: سنجد أنها فصلت عن أخواتها بعدد من السور هو 17، ورتبت في موقع يدل عليه رقم الترتيب 68 أي 4 × 17، وسنجد أن من بين آياتها أربع آيات مؤلفة كل منها من عدد من الحروف هو 17 (لاحظوا 4 في 17)، وإذا حصرنا عدد ما ورد في الآيات الأربع من حروف اللغة سنجدها 17 ........
وغير هذا ..
هناك العلاقات التي تربط سورة القلم بسورتي العنكبوت والطارق ..
وهناك العلاقات التي تربطها بسور الفواتح ..
وهناك العلاقات التي تربطها بباقي سور القرآن ..
وهكذا في باقي سور القرآن.
ومعنى هذا أن ما يصدره البعض من أحكام مبني على قياس خاطئ وتصور قاصر لحقيقة الترتيب القرآني.
وملاحظة أخيرة: إذا أراد مؤلف أن يصنع نصا ما ويضمنه أسرارا عددية، فالمتوقع أنه بعد أن ينتهي من عمله سيعود إلى النص فيحسب عدد كلماته أو عدد حروفه، ويحذف ويضيف وغير ذلك. في القرآن لم يحدث شيء من هذا. نزلت سورة الفاتحة وظلت سورة الفاتحة سورة الفاتحة، لم يحدث تبديل أو تغيير فيها أو مراجعة لعدد كلماتها وحروفها .. نزلت وأخذت شكلها النهائي، لم يطرأ عليها أي تغيير لتتناسب مع السور التي نزلت بعدها .. واكتمل نزول القرآن وجاءت سورة الفاتحة – كغيرها – في غاية الإحكام لغة وترتيبا.