تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و? عيناً يشرب بها المقربون ? (المطففين: 28) فقد كان القياس أن يشرب منها لا يشرب بها، وقد ذهب الكثير من مفسرينا إلى هذا المعنى ونقلوه وكأنه لا فرق بين (يشرب منها ويشرب بها) ((16)) وللتخلص من هذا قالوا بأن (من) زائدة هنا ((17))، وعلى ما قُرِّر قبل هذا فإن الفعل يشرب قد عُدّيَ بحرف الجر (الباء) دون (من) لتضمينه معنى فعلٍ أخر يُراد معه من حيث المعنى دون أن يلغي أحدهما الأخر، ولكن ما هو هذا الفعل؟

إنّ استقراءً لما استشعره المفسرون لهذا الفعل سيجعلنا أمام اختلافٍ أخر، وهو أنّ الفعل المُتَضَمنَ مع المذكور في النص سيكون قراءةً غير مقطوعٍ بها، وإن اعتمدت أساساً لغوياً صحيحاً على أن هذا لا يعني سوى أدبيةً وفنيةً عاليةً للنص القرآني فهو نص قابل لقراءاتٍ تفسيرية متعددة لا تعارض بينها ما دامت تعتمد الأساس اللغوي معياراً للقراءة، وإلى هذا تنبه القدماء فوصفوا القرآن الكريم بأنه حمّالُ أوجهٍ ((18))، من ذلك اختلاف المفسرين في الفعل الذي يتضمنه الفعل (يشرب) في الآية:

فقد ذكر الماوردي أنه متضمنٌ معنى الانتفاع أي ينتفع بها ((19)) وأغلب ما ذُكر عند البقية داخلٌ تحت معنى الانتفاع، فقد ضُمنَ (يشرب) معنى التلذذ أي يتلذذ بها ((20)) وبهذا يتحقق لدينا تكامل في الدلالة إذ ليس كل ما يشرب يُتلذّذ

بشربه فجُمع هنا بين إثبات الشرب لهم من جهة وإثبات التلذذ بهذا الشرب من جهةٍ أخرى، وقيل ضُمنَ الفعلُ معنى الارتواء ((21)) ليفيد الشرب والري جميعاً ((22))، وبهذا الفهم يتحقق تكامل دلالي أخر فقد يكون ما يُشرب مُتلَذَّذاً بشربه غير أنه لا يروي شاربه، وليس من مانعٍ أبداً من إرادة هذه المعاني على العكس فإنّ أي ذوقٍ أدبي يصرُّ على فهم هذه المعاني سوياً لما تحققه من صورة متكاملة بدليل هذا العدول إلى (الباء) عن (من) التي استخدمت مع الفعل نفسه في قوله تعالى: ? إنّ الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كافوراً ? (الإنسان: 5) مع أن السياق يقتضي هنا أن يكون النظم (إن الأبرار يشربون بكأسٍ) لأن المألوف أن (يقال شربت بالكأس وبالكوب) ((23)).

-والحقيقة أن الرأي المقابل القائل بنيابة حروف الجر عن بعضها لم يلقَ الاهتمام الكبير من قبل المحدثين كما كان عند كثير من القدماء مثل السهيلي الذي نقل عنه ابن القيم تفرقته بين استخدام حرفي الجر (على) والباء في قوله تعالى:

? تجري باعيننا ? (القمر: 14)، وقوله تعالى: ? ولتصنع على عيني ? (طه: 39) والفرق أن الآية (ولتصنع على عيني) وردت في إظهار أمرٍ كان خفياً وإبداءه ما كان مكتوماً لأن الأطفال إذ ذاك كانوا يُغذّون ويصنعون سراً فلما أراد أن يصنع موسى ويغذى ويربى على حال أمنٍ وظهور لا تحت خوفٍ واستتارٍ دخلت (على) في اللفظ تنبيهاً على المعنى لأن على تدل على الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وإبداء فكأنه سبحانه يقول (ولتصنع على أمنٍ لا تحت خوف .. أما قوله تعالى: (تجري بأعيننا) و (اصنع الفلك بأعيننا) فأنه إنما يريد برعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيءٍ ولا إظهاره بعد كتمٍ فلم يحتج في الكلام إلى

(على) بخلاف ما تقدّم ((24)).-وكذلك فرّق ابن القيم بين تعدية الفعل (أوحى) بالباء و (عن) كما في قوله تعالى: ? وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى ? (النجم: 3 - 4) وهذا التعبير أبلغ مما لو قيل: وما ينطق بالهوى كما يقول؛ لأن نطقه عن الهوى يتضمن أن نطقَه لا يصدر عن هوى وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فتضمن بذلك نفي الأمرين:

نفيُ الهوى عن مصدر النطق ونفيه عن نفسه ((25))، وهذا أبلغ التنزيه وأشمله فقد نزه القرآن بهذا التعبير عن الهوى سواء كان من المصدر في الإيحاء أم في كيفية التبليغ، وليس من اتهام يمكن أن يخيل إلا ومرجعه إلى هذين الأمرين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير