[التحقيقات النحوية المفيدة-مسألة الكلام]
ـ[عبد الباري]ــــــــ[13 - 02 - 2009, 01:52 م]ـ
أما بعد حمد الله حق حمده والصلاة على نبيه وعبده فهذه كلمات واضحة المعاني متينة المباني في تحقيق مسائل النحو
المسألة الأولى في تحقيق مسمى الكلام فأقول و بالله أعتصم وأسأله العصمة مما يصم:
لقد شاع عند أكثر النحاة أن الكلام يطلق في اللغة على المعنى النفسي، حتى أصبح عندهم من مسلمات الأمور، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية خطأه بكلام يطول ذكره هاهنا، ولكني ذاكر بحول الله وقوته زبدة ما جاء فيه مرتبا منقحا، وذلك بعد أن نعرف أصل هذا القول وأصحابه.
فليعلم أن أول من قال إن الكلام يطلق على المعنى النفسي هو عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، رأس الطائفة الكلابية، وتبعه في ذلك أبو الحسن الأشعري، ولم يقله اعتمادا على نقل كلام العرب، وإنما اضطره إلى ذلك الرد على المعتزلة، ودمغ باطلهم المقيت، وافترائهم على كتاب الله، واجترائهم عليه بقولهم إنه مخلوق، فقال كما قال السلف كلام الله غير مخلوق.
ولما كانت لا تزال تمتلكه بعض رواسب علم الكلام الباطل التي تقضي باستحالة حلول الحوادث بذات الله عز وجل، رأى أنه إن قال بأن كلام الله صوت يُسمعه من يشاء سبحانه وتعالى لزمه القول بحلول الحوادث بذاته سبحانه وتعالى، وذلك باطل في اعتقاده، فلا هو قال بقول المعتزلة، ولا هو قال بقول السلف، ولم يمكنه الجمع بين عقيدة السلف وعقيدة المعتزلة إلا بأن ابتدع هذا القول الذي صرح كثير من أصحابه بأنه عين قول المعتزلة، وهو أن كلام الله غير مخلوق وغير مسموع، بل هو معنى في نفسه عز وجل، قديم بقدم الله تعالى، يوحيه إلى النبي، فيتكلم النبي باللفظ من عنده معبرا عن المعنى الذي أوحاه الله إليه، فصار حقيقة قولهم أن هذا القرآن الذي نتلوه بين أظهرنا ليس كلام الله، بل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما معناه هو الذي من عند الله، وهذا باطل في ضرورة الشرع.
والمقصود أن أهل السنة والجماعة مطبقون على أن كلام الله تعالى صوت يسمعه من يشاء وأنه يتكلم كيف شاء متى شاء كما قال أئمة السلف، وأنه لا دليل على ما ذهب إليه ابن كلاب إلا ضرورة الجمع بين المذهبين، وليس هذا موضع بسطه.
وهذا الآن ملخص الأدلة التي تنفي أن يكون الكلام بمعنى ما في النفس
الدليل الأول: قول النبي إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وقوله:"إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"، وقد اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من حديث لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
الدليل الثاني: ما جاء في الصحيحين عن النبي أنه قال:" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به"، فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع كما قرر إنما خاطبنا بلغة العرب.
الدليل الثالث: ما جاء في السنن من أن معاذا قال له يا رسول الله:"وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به"، فقال: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" فبين أن الكلام إنما هو ما يكون باللسان.
الدليل الرابع ما جاء في الصحيحين عنه أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فجعل محل الكلام اللسان
الدليل الخامس قول الله تعالى (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) فجعل الكلام ما يخرج من الفم لا ما يقع في النفس إذ أن ذلك يسمى اعتقادا لا كلاما
الدليل السادس قول الله تعالى حكاية عن مريم (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) مع أننا نقطع أنه يقع في نفسها أحاديث ومعاني ولو كان ذلك كلاما لما صح صومها
الدليل السابع قول الله تعالى لنبيه زكريا (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) فنفى عنه الكلام مع القطع بأنه يقع في نفسه معانيه
يتبع ...
¥