تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كان ابن قتيبة هو أول بلاغي يشير إلى الارتباط بين " التقديم والتأخير " والقراءات القرآنية، فقد جعله من أسباب الاختلاف في وجوه القراءات. يقول ابن قتيبة: " الوجه السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) ()، وفي موضع آخر: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ) " (). فقد ساق ابن قتيبة في هذا النص قراءتين للآية الكريمة، كان السبب في اختلافهما " التقديم والتأخير" المعنوي بين لفظتي (سكرة) وما يضاف إليها (الموت – الحق). والقراءة الأولى هي قراءة الجمهور، بينما الثانية قراءة سعيد بن جبير وطلحة (). ويحمد لابن قتيبة هذه الإشارة، لكونها ذات مغزى دلالي وبلاغي دقيق.

تنوير:

هناك بعض المؤلفات التي اختصت بالبحث في الإعجاز القرآني بكافة فنونه، مثل " البرهان في علوم القرآن " للزركشي (ت794هـ) و" الإتقان في علوم القرآن " و" معترك الأقران في إعجاز القرآن " و" مفحمات الأقران في مبهمات القرآن " للسيوطي (ت911هـ). ومن فنون الإعجاز بالطبع؛ الإعجاز البلاغي. وقد تضمنت هذه المؤلفات الكثير من ألوان الفنون البلاغية منها على سبيل المثال: (التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والإيجاز والإطناب , والاستعارة، والتشبيه) وغير ذلك من الألوان البلاغية.

وتأسيساً على هذه الإشارة، كان لابد من البحث في هذه المؤلفات لكونها قد أفردت مبحث " التقديم والتأخير" بحيز منفصل في ثناياها، واعتنى مؤلفوها بالبحث في أسرار هذا المبحث في القرآن الكريم.

ويعنينا في هذا المقام أن نشير إلى أنه على الرغم من عدم كون الزركشي والسيوطي من البلاغيين، فإن المسوغ لضمهما إلى هذه الفئة من البلاغيين هو ما ضمته مؤلفاتهما من الإشارات البلاغية الدقيقة، والنقولات التي لم نجدها في غير مؤلفاتهما. فيكفينا أن السيوطي قد حفظ لنا نصوصا في كتابه " الإتقان " لابن الصائغ الحنفي صاحب المؤلف الوحيد فيما نعلم – حتى الآن – في " التقديم والتأخير " والذي سماه " المُقَدِّمَةُ في سِرِّ الأَلْفَاظِ المُقَدَّمَةِ "، وقد ضاع هذا الكتاب فيما ضاع من تراثنا الثري.

والشيء الفريد في هذه المؤلفات كون البحث فيها منصباً على التناول التحليلي للمبحث في الآيات القرآنية، وذكر أسبابه، وأسرار الورود بهذا الأسلوب في النظم القرآني. كما كان تنبه كلا من الزركشي والسيوطي لنوعي "التقديم والتأخير"؛ الرتبي والمعنوي مما يحمد لهما بحق. فقد ذكر الزركشي "للتقديم والتأخير" أسبابا سبعة هي ():

الأول: أن يكون التقديم أصلا لا مقتضى للعدول عنه، مثل تقديم الفاعل على المفعول، والمبتدأ على الخبر، وصاحب الحال عليه.

والثاني: أن يؤدى التأخير إلى فساد المعنى، والخلط في الفهم، مثل قوله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) () فإنه لو أخر (من آل فرعون) لاختل المعنى، وفهم غير المقصود.

والثالث: أن يكون في التأخير إخلالا بالتناسب، فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة، كقوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) () فإنه لو أخر (في نفسه) عن (موسى) لما تناسبت الفواصل مع ما قبلها.

والرابع: الاهتمام بالمتقدم مثل قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعيِنُ). ()

والخامس: التفات الخاطر إلى المتقدم، وعقد الهمة عليه نحو قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) () فقدم الجار والمجرور على المفعول الأول، لكون الإنكار متوجها إلى الجعل لله، لا مطلق الجعل.

والسادس: أن يكون التقديم للتبكيت والتعجب والسخرية من حال المذكور مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ).

والسابع: الاختصاص بتقديم ما ليس حقه التقديم مثل المفعول، والخبر، والظرف، والجار والمجرور على الفعل نحو قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ). ()

ثم شرع بعد ذلك في ذكر أنواع " التقديم والتأخير" وجعله على أنواع ثلاثة هى:

الأول: ما قدم والمعنى عليه.

والثاني: ماقدم وهو في المعنى مؤخر أو العكس، أى: ما أخر وهو في المعنى مقدم. والثالث: ما قدم في آية وأخر في أخرى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير