تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن ما يعكر صفو هذا الجهد الرائع لابن أبي الإصبع إشارته البسيطة لفظاً، المؤلمة دلالةً في نهاية النص السابق، إذ جعل " القديم والتأخير " من الأسباب المؤدية إلى اللبس على إطلاق العبارة دونما تخصيص، ولعل ذلك مرده فورة الحماس التي لازمته في حديثه عن النص القرآني وإعجاز نظمه وروعة تراكيبه، وسلاسة آياته. وإن كانت هذه الإشارة مما يؤخذ عليه خاصة أنه ذكر في بدء كلامه قاعدة قرر فيها أحكام " التقديم والتأخير".

مما سبق يتضح جلياً تنبه البلاغيين لنوعي " التقديم والتأخير"؛ الرتبي والمعنوي، وإشاراتهم – ضمناً – إلى هذين النوعين، وتناولهم الدقيق لكل نوع في مداخلاته مع الآيات القرآنية، ومحاولة الوقوف على أسرار هذه المداخلات، وإضافاتها البلاغية والدلالية لهذه الآيات.

خامسا: فيما يتعلق بقيام بلاغيي الإعجاز القرآني بخلط المصطلح مع غيره من المصطلحات القريبة الدلالة منه. فالبداية تتضح لنا جلياً عند أبي عبيدة في " مجاز القرآن " عندما جعل كل ما ورد من مواضع " للتقديم والتأخير" من المجاز، إذ كان أبو عبيدة يسوق هذه المواضع ويسبقها بعبارة (ومن مجاز المقدم والمؤخر). () ولعل هذا الخلط الضمني لم يكن مقصوداً، بل كان ذلك منهج كتابه.

أما ابن قتيبة فإنه ينص صراحة على الخلط بين " التقديم والتأخير " و " القلب " إذ يجعل من مصطلح القلب مصطلحا عاما يندرج تحته " التقديم والتأخير " يقول: " ومن المقلوب: أن يقدم ما يوضحه التأخير، ويؤخر ما يوضحه التقديم كقول الله تعالى: (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلُهُ) () أي: مخلف رسله وعده، لأن الإخلاف قد يقع بالوعد كما يقع بالرسل، فتقول: أخلفت الوعد، وأخلفت الرسل. وكذلك قوله: (فَإِنَّهُمْ عَدَوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ) () أي: فإني عدو لهم، لأن كل من عاديته عاداك " ().ولا ندري المسوغ الذي جعل ابن قتيبة يعتقد هذا الرأي الذي يخلط فيه بين " التقديم والتأخير" و" القلب "؟ فقد كان يكفيه أن يخرج ما في الآيتين من إشكال على باب المقلوب فقط. وقد ذكر ابن قتيبة للتدليل على وجود "القلب " في القرآن ست آيات منها الآيتان السابقتان0 ()، ولم يذكر في أي شاهد من هذه الشواهد أي إشارة " للتقديم والتأخير"، ثم ذكر سبع آيات () قرآنية للتدليل على " التقديم والتأخير" مفردا دون النص على " القلب "، وإن كانت هذه الشواهد جميعها من باب "التقديم والتأخير" المعنوي، وتقترب في جانب منها من مصطلح " القلب " يتضح ذلك من قول ابن قتيبة: " قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) أي: فعقروها فكذبوا بالعقر. وقد يجوز أن يكون أراد: فكذبوا قوله: إنها ناقة الله؛ فعقروها " (). فهنا قلب للكلام لأن التكذيب تالي للعقر، لأن فعل العقر في ذاته تكذيب لما نبههم عليه نبي الله صالح – عليه السلام – من كون هذه الناقة لها خصوصية، فلم يستجيبوا وعقروها، فكأنهم بهذا العقر كذبوا مقالة نبيهم.

فابن قتيبة قدم وأخر وقلب المعنى وإن لم ينص هنا على معنى القلب.

ويتضح مدى الخلط الذي أشرنا إليه أوضح جلاء عند ابن أبي الإصبع المصري في " بديع القرآن " إذ ما يفتأ يخلط بين المصطلحات لخدمة غرض وحيد ابتغاه من تأليفه وهو التدليل على وجود ألوان عديدة من ألوان البلاغة والبديع في القرآن الكريم. يبدأ ابن أبي الإصبع خلطه بين "التقديم والتأخير" والعديد من المصطلحات مثل: الالتفات ()، وصحة التقسيم ()، والتعليل ()، والتوكيد (). لكن الملاحظ عند ابن أبي الإصبع أنه يوظف " التقديم والتأخير" لخدمة هذه الألوان وما يقع تحتها من أفكار.

تلك هي أهم الملحوظات التي نتجت من استقراء جهود البلاغيين في بحثهم " للتقديم والتأخير " وتقاطعات سياقاته مع الآيات القرآنية. واعتماد وصف المرحلة بالبداوة ناتج من كونها لم تفرد المبحث بالتأليف، وإنما جاءت إشاراتهم عابرة في ثنايا تلك المؤلفات، نمت فيما بعد لتشكل زخماً من الآراء القيمة، والتي بوبت أحسن تبويب على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني.

إضاءة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير