تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقدامة بن جعفر (ت337هـ) يجعل " التقديم والتأخير " عيبا من العيوب التي تلحق الشعر وتهجنه، ولم يذكره في كتابه " نقد الشعر " كوسيلة أسلوبية تستخدم لتحسين الكلام وتزيينه، بل اكتفي بفعل الذم، وجعل المبحث في خانة العيوب، يقول قدامة في معرض حديثه عن المقصد من نعت ائتلاف اللفظ والوزن: " أن تكون أوضاع الأسماء والأفعال والمؤلفة منها وهي الأقوال، على ترتيب ونظام لم يضطر الوزن إلى تأخير ما يجب تقديمه، ولا إلى تقديم ما يجب تأخيره منها " (). ويتحدث عن " التفصيل " وهو عيوب ائتلاف اللفظ والوزن فيقول: " هو ألا ينتظم للشاعر نسق الكلام على ما ينبغي لمكان العروض فيقدم ويؤخر كما قال دريد بن الصمة ():

وَبَلِّغْ نُمَيْراً – إِنْ عَرَضْتَ – ابْنُ عَامِرٍ فَأَيُّ أَخٍ فِي النَّائِبَاتِ وَطَالِبِ

ففرق بين نمير بن عامر بقوله: إن عرضت " ().ويتضح هنا أن الذي عناه قدامة بالتفريق هو " الاعتراض " وهذا شيء عجيب حقا ألا ينتبه قدامة لهذه اللمحة النحوية فلا يفرق بين "الاعتراض" وبين" التقديم والتأخير". لكن المهم هنا أنه جعل "الاعتراض" من "التقديم والتأخير"، وهي وجهة نظر جديدة، مختلفة تماما عن النظرة النحوية في هذه المسألة. والذي يعنينا هنا أنه أصر على ذكر المبحث في الجانب السيئ للتوظيف الكلامي، ولم يشر إليه إطلاقا بالإجادة والحسن.

والآمدي (ت370 هـ) في كتابه " الموازنة " يشير إلى مصطلح " الإساءة في النظم " أو رداءة مكان اللفظ في الجملة بقوله: " واعلم أن ردئ اللفظ يكون على وجهين: أما أن يكون اللفظ من ألفاظ العوام سخيفة في نفسها، أو جيدة قد وضعت في غير موضعها فصارت رديئة بذلك الموضع خاصة " (). وهو يسير في اتجاه ابن المدبر ويتخذ من كلامه نبراسا له نلمح ذلك من سياق الكلام. كما أن الآمدي لم يشر إلى أسلوبية "التقديم والتأخير" ودوره في إبراز جماليات النظم.

والمرزباني (ت384هـ) في كتابه " الموشح " يسلك الدرب نفسه إذ يقول: " وقد وضع قوم الكلام في غير موضعه، فقدموا وأخروا، نحو قوله ():

صَدَدْتَ فَأَطْوَلْتَ الصُّدُودَ وَقَلَّمَا وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ

يريد: وقلما يدوم وصال " ().

أما أبو هلال العسكري فقد فصل القول في " التقديم والتأخير " دون أن يعين له فصلا خاصا في كتاب " الصناعتين ". فقد بدأ بالكلام على أخطاء المعاني وأسباب هذه الأخطاء بقوله: " والمعاني بعد ذلك على وجوه منها ما هو مستقيم حسن كقولك: قد رأيت زيدا. ومنها ما هو مستقيم قبيح نحو قوله: قد زيدا رأيت. وإنما قبح لأنك أفسدت النظام بالتقديم والتأخير " ().فانظر هنا إلى قوله: " مستقيم قبيح " أي قد استقام الكلام تركيبا وسلم من الناحية النحوية من حيث التزامه بالقواعد المقررة في التركيب، لكنه قبح من ناحية المعنى والدلالة. وقد رد العسكري ذلك إلى " التقديم والتأخير " بقوله: " لأنك أفسدت الكلام بالتقديم والتأخير " أي نظام المعنى.

إن العسكري يقرر هنا قاعدة " معنى التراكيب " أو توظيف النحو بلاغيا، وهذا ما سيتنبه له فيما بعد عبد القاهر الجرجاني في " دلائل الإعجاز " وسيوفيه حقه بحثا. لكن الجميل هنا أن العسكري يحكم الذوق في الحكم على سلامة النظام الدلالي والمعنوي للجملة، بعيدا عن تحكيم السلامة التركيبية النحوية.

ويتخذ العسكري سلاح النصيحة ويتدثر به ليلقي بنصائحه للكتاب عن فنية " التوظيف " الجيد لهذا المبحث بقوله: " وينبغي أن ترتب الألفاظ ترتيبا صحيحا، فتقدم منها ما كان يحسن تقديمه، وتؤخر منها ما كان يحسن تأخيره، ولا تقدم منها ما يكون التأخير به أحسن، ولا تؤخر منها ما يكون التقديم به أليق " ().ألا تراه هنا يشير صراحة إلى استحبابه نسق الكلام على المعتاد دون استخدام فنية " التقديم والتأخير " في التراكيب، يقول: " فتقدم منها ما كان يحسن تقديمه "، فالمبتدأ مقدم، والفاعل مقدم، وصاحب الحال مقدم عليها، وتلك هي أوجه الكلام الفصيح، فلا حاجة إلى التقعيد والإلغاز في التراكيب باستخدام " التقديم والتأخير ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير