تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويتحدث العسكري عن سوء الرصف وحسنه بقوله: " وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها وتمكن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمي المعنى، ويضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها. وسوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها " (). وهذا النص يستلزم منا وقفة تفصيلية تحليلية لأهمية ما يحتويه. فالعسكري يتحدث عن " الرصف " أي " النظم" ويجعل حسن النظم أن تأتي الدوال المكونة لأي تركيب على النسق المعهود نحوياً، والالتزام بالقواعد التركيبية المقررة، ولا يستعمل فيها أي تقديم أو تأخير أو حذف أو زيادة إلا بشروط معينة ومميزات خاصة هي:

1 - عدم إفساد الكلام (لا يفسد الكلام).

2 - عدم غموض المعنى (ولا يعمي المعنى).

3 - أن تنضم الألفاظ إلى ما يشاكلها بالتقديم والتأخير أو الحذف والزيادة.

فجعل شرطين في جانب المعنى، وشرطاً وحيداً في جانب التركيب. لكن السؤال الآن: ماذا يقصد بقوله: " ويضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها "؟ وما الشكل الذي يقصده هنا؟ هل يرمي إلى الشكل التركيبي المثالي؟

إن الضم والمشاكلة التي يقصدها العسكري ويرمي إليها قد تفسر من جوانب عديدة، لكن وجه الكلام يشير إلى عنايته بالمشاكلة التركيبية، وعنايته بانسياب الكلام على قواعد التركيب المقررة، لكون سياق عبارته ينحو نحو هذه الوجهة.

أما سوء الرصف عنده فله وسائل تؤدي إليه منها:

1 - تقديم ما ينبغي تأخيره.

2 - صرف الألفاظ عن وجوهها.

3 - تغيير صيغة الألفاظ.

4 - مخالفة الاستعمال في نظم هذه الألفاظ.

وقد جعل العسكري الوسيلة الأولى (تقديم ما ينبغي تأخيره) على إطلاقها، ولم يخصصها، ذلك أن هناك ما ينقض هذه الإشارة؛ فالخبر يتقدم على المبتدأ وهو من المؤخرات وجوباً، وكذلك المفعول، والحال، والتمييز، والمفعول المطلق، والمفعول له، والمفعول معه، ومعمولات المشتقات , لكن المسوغ الوحيد لحمل كلام العسكري على حسن الظن هو كونه يخاطب أهل عصره بما عرف عنهم من ثقافة نحوية في ذلك الوقت، فكأنه عندما يشير إلى هذه الإشارة تتجه الأذهان إلى تقديم ما ينبغي تأخيره ولا وجه لتقديمه إطلاقا، فبذلك يسوء الرصف، وهذا هو الاحتمال الأليق.

أما الوسيلة الثانية لسوء الرصف وهي (صرف الألفاظ عن وجوهها) فالمقصود بالوجوه هنا وجوه الاستخدام في السياقات المختلفة (الدلالية)، فقد تأتي اللفظة لتدل على عدة معان، ويوظفها الشاعر أو الناثر ليشير بها إلى معنى مخالف لكل أوجه الاستعمال المعهودة، فيصرفها عن وجه استخدامها، فيسوء هذا الاستخدام، وينبو عن الصحة.

والوسيلة الثالثة لسوء الرصف عند العسكري هي (تغيير الصيغة)، فما المقصود بالصيغة هنا؟ هل يعني الصيغة البنيوية الصرفية أم أنه يعني الصيغة (الصياغية)؟ وسياق الكلام هنا يدور في جانب تعداد الوسائل المفسدة للنظم، فأجدر بالسياق هنا أن يشمل الدلالة والنحو والصرف أيضا، وعلى هذا فإن هذه الوسيلة تنحو نحو الصيغ الصرفية، وتغيير صيغ استعمالها، فلا نتوقع استخدام صيغة صرفية لم يتعارف عليها العلماء، وتحوز منهم الإعجاب. والدليل على ما ذهبنا إليه هو ما أشار إليه العسكري في الوسيلة الرابعة وهي (مخالفة الاستعمال في نظمها) نجدها مكملة للوسيلة السابقة، أي مخالفة ما تعاهدته العرب من توظيفات للفظة نحويا ودلاليا.

إن النص السابق رغم ثرائه بالآراء والدلالات، فإنه يحمل في طياته إشارات هدم، وعبارات ذم لمبحث " التقديم والتأخير " إذ أن العسكري يجعل من استخدامات هذا المبحث في جانب الإساءة، وقد أغفل العسكري أي إشارة إلى حسن توظيف المبحث، وأثره في إثراء دلالات النظم الكلامي.

والعميدي (ت 433هـ) فقد ذكر تعليقاً موجزاً في كتابه " الإبانة عن سرقات المتنبي " لخص فيها المعاناة التي يلاقيها من يتصدى لتأويل نص مشكل، كان إشكاله بأي وسيلة من وسائل الإلغاز والتعقيد، وما يعتري الناقد العالم من حالات إزاء هذه الإغرابات. يقول العميدي: " قال المتنبي ():

أَرْضٌ لَهَا شَرَفٌ سِوَاهَا مِثْلُهَا لَوْ كَانَ مِثْلُكَ فِي سِوَاهَا يُوجَدُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير