تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففي الضرب الأول وهو " حسن الرصف " يقول: " وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة، إلا حذفا لا يفسد الكلام ولا يعمي المعنى، ويضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها " ().وهو هنا مصيب في اصطلاحه " الرصف " لدقة المصطلح في دلالاته على نظم الكلام، وبيان ما يحتاجه هذا الرصف من جهد ومئونة. فوضع الألفاظ مواضعها كما يقتضي الترتيب المثالي للجملة هو حسن الرصف من وجهة نظره. وتأمل قوله: " وتمكن في أماكنها "، ودلالاتها البليغة في أداء المعنى المراد، والدال على الثبات والاستقرار البنيوي للكلمات داخل كينونة جملها.

كذلك يضع العسكري دستورا لاستعمال الفنيات والتقنيات الأسلوبية مثل التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، يتلخص في: ألا يؤدي توظيف هذه التقنيات الأسلوبية بشكل من الأشكال إلى إفساد المعنى والنظام وتعميته، وإلا هجنت وقبحت. ولعل استخدامه بعض الكلمات واتكاؤه عليها كان له دلالة بليغة في أداء ما رامه من معاني من وراء مصطلح " الرصف"، مثل توظيفه لكلمات (يضم) و (شكلها) و (تضاف) و (لفقها) مما زاد النص دلالة فوق ما أراده من دلالات.

أما الضرب الثاني والذي سماه " سوء الرصف " فقد عرفه بقوله: " سوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفه عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها. وقال العتابي: الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح، وإنما نراها بعيون القلوب، فإذا قدمت منها مؤخرا، أو أخرت منها مقدما، أفسدت الصورة، وغيرت المعنى، كما لو حُوِّل رأس إلى موضع يد، أو يد إلى موضع رجل، لتحولت الخلقة، وتغيرت الحلية. وقد أحسن في هذا التمثيل " (). ويؤخذ على العسكري إطلاقه وتعميمه للأحكام كحال البلاغيين في هذه المرحلة، فقد فصل القول في " سوء الرصف " وجعل له وسائلا وسبلا منها: تقديم ما ينبغي تأخيره، وتغيير صيغة الألفاظ، وصرفها عن وجوه الاستعمال المعروفة، ومخالفة الاستخدام النحوي والتركيبي والدلالي في نظمها. وقد أحسن العسكري إذ نقل لنا المثال الذي ضربه العتابي للتمثيل لحالة " التقديم والتأخير " في حسنها وقبحها.

أما القضية الثالثة التي أثارها العسكري فتتعلق بما أسماه " حل المنظوم ونظم المحلول ". فقد تحدث العسكري عن هذه القضية، وبين إمكانية حدوث ذلك. وأيضا اتخذ من التقديم والتأخير وسيلة معينة على أداء ما رامه من أفكار، يقول العسكري: " والمحلول على أربعة أضرب: فضرب منها يكون بإدخال لفظة بين ألفاظه، وضرب ينحل بتأخير لفظة وتقديم أخرى فيحسن محلوله ويستقيم، وضرب منه ينحل على هذا الوجه ولا يحسن ولا يستقيم، وضرب تكسو ما تحله من المعاني ألفاظا من عندك وهذا أرفع درجاتك " ().وقد مثل العسكري لكل ضرب من هذه الأضرب بالكثير من الأمثلة والشواهد الشعرية. والذي يعنينا من هذه الأضرب هو الضرب الثاني؛ الذي ينحل بتأخير لفظة وتقديم أخرى فيحسن المعنى ويستقيم، والضرب الثالث الذي جعله العسكري ينحل بتأخير لفظة وتقديم أخرى ولا يحسن ولا يستقيم. فمن جديد نحن أمام قضية " الرصف " من حيث الحسن والإساءة، والتي يلح عليها العسكري بشدة، فضرب يؤدي إلى حسن المعنى واستقامته، وضرب يؤدي إلى فساد النظم والمعنى وقبحه. يقول العسكري: " وأما الضرب الثالث فهو أن توضع ألفاظ البيت في مواضع ولا يحسن وضعها في غيرها فيختل، إذا نثر بتأخير لفظ وتقديم آخر " ().إذن العسكري يلح على ذات القضية الثانية وهي " حسن الرصف وسوءه " وهي ما حكم تفكيره في حديثه عن قضية " نثر الشعر ونظم النثر" بل ولعلها هي التي حكمت تصوره كله عن " التقديم والتأخير ".

بهذا الجهد يكون العسكري متفردا بين بلاغيي هذه المرحلة، لم ينافسه ويزاحمه أحد.

الوقفة الثالثة:

تتعلق بهذا الزخم التحليلي الخاص " بالتقديم والتأخير " والذي أتى في ثنايا مؤلفات بلاغيي هذه المرحلة. فقد انبرى البلاغيون تحليلا وفحصا وتطبيقا للأبيات الشعرية لإبراز ما فيها من تقديم وتأخير، سواء أجاد الشاعر في توظيفه للمبحث أم أساء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير