تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ليست من الصفات المحبوبة، فيصل بالكلام ما يخرُج به إلى نوع من المدح، كقول المتنبي:

حَسَنٌ في وُجوهِ أعدائهِ أقْ ... بَحُ من ضَيْفه رَأَته السَّوَامُ

بدأ فجعله حسناً على الإطلاق، ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه، على العادة في مدح الرجل بأن عدوَّه يكرهه، فلم يُقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القُبح، حتى وصل به هذه الزيادةَ من المدح، وهي كراهةُ سَوامِهِ لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكرُ القبح مغموراً بين حُسنين، فصار كما يقول المنجّمون: يقع النَّحس مضغوطاً بين سَعْدين، فيبطل فعله وينمحق أثره. وقد عرفتَ ما جَناه التهاوُنُ بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام، حتى صار ما يُنعَى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمُنْكِر لفضله، وأحْضَر حُجّةً للمتعصّب عليه، وذلك أنه لم يُبالِ في كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ، واقتصر على صميم التشبيه، وأطلق اسم الجنس الخسيس كإطلاق الشريف النَّبيه، كقوله:

وإذا ما أردتُ كنتَ رِشاءً ... وإذا ما أردتُ كنتَ قَليبَا

فصَكَّ وجهَ الممدوح كما ترى بأنه رشاءٌ وقليبٌ، ولم يحتشم أن قال: (ص91)

جعله يهذي وجعل عليه الحُمَّى، وظنّ أنه إذاحصلَ له المبالغة في إثبات المكارم له، وجعلها مستبدّة بأفكاره وخواطره، حتى لا يصدر عنه غيرُها، فلا ضير أن يتلقَّاه بمثل هذا الخطاب الجافي، والمدح المتنافي. فكذلك أنت هذه قِصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغَة على تأويل السُّخط. فإن قلت أَفَتَرَى أن تأبَى هذا التقدير في البيت أيضاً حتى يُقْصَر التشبيهُ على ما تُفيده الجملة الجارية في صلة الذي، قلتُ إنّ ذلك الوجهُ فيما أظنُّه، فقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لَيدخُلنَّ هذا الدينُ ما دَخَل عليه الليلُ، فكما تجرَّد المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجهٌ، كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له، ويكون ما ادَّعوه من الإشارة بظُلْمة الليل إلى إدراكه له ساخطاً، ضرباً من التعمّق والتطلُّب لما لعلّ الشاعر لم يقصده، وأحسنُ ما يمكن أن يُنتصَر به لهذا التقدير أن يقال إن النهارَ بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان، فما مِنْ موضع من الأرض إلا ويُدركه كلُّ واحد منهما، فكما أن الكائن في النهار لا يُمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعاً لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصُه الليلَ دليلٌ على أنه قد روَّى في نفسه، فلما علم أن حالَة إدراكه وقد هربَ منه حالةُ سُخْطٍ، رأى التمثيل بالليل أولَى، ويُمكن أن يزاد في نصرته بقوله:

نعمةٌ كالشَّمْس لمَّا طَلعَتْ ... بَثَّتِ الإشراقَ في كلِّ بَلَدْ

وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار، والوصول إلى كل مكان، إلاّ أن النعمة لما كانت تَسُرُّ وتُؤنِس، أخذ المثلَ لها من الشمس، ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد، وانتشارِها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بَلَدٍ، وبُلوغه كلَّ أحد، لكان قد أخطأ خطأً فاحشاً، إلاّ أن هذا وإن كان يجيء مستوياً في الموازنة، ففرقٌ بين ما يُكرَهُ من الشَّبه وما يُحَبُّ، لأن الصفةَ المحبوبة إذا اتصلت بالغَرَض من التشبيه، نالت من العناية بها المحافظة عليها قريباً مما يناله الغَرَض نفسه، وأّما ما ليس بمحبوب، فَيَحْسُن أَن يعْرض عنها صفحاً، ويدَع الفكر فيها، وأما تركُه أن يمثَّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه، فيمكن أن يُجاب عنه بأنّ هذا الخطابَ من النابغة كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في النهار، بَعُدَ أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر، وطَرَيانه على النهار متوقَّع، فكأنّه قال وهو في صدر النهار أو آخره لو سرتُ عنك لم أجد مكاناً يقيني الطلبَ منك، ولكان إدراكُك لي وإن بعُدت واجباً، كإدراك هذا الليل المقبل في عَقب نهارِي هذا إيَّاي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض. وهاهنا شيء آخر وهو أنّ تشبيه النعمة في البيت بالشمس، وإن كان من حيثُ الغرضُ الخاصُّ، وهو الدِّلالة على العموم، فكان الشَّبه الآخرُ من كونها مُؤْنسةً للقلوب، ومُلبسةً العَالَم البهجةَ والبهاءَ كما تفعل الشمس، حاصلاً على سبيل العَرَض، وبضَرْبٍ من التطفُّل، فإنّ تجريدَ التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابعٌ، وجَعْلَهُ أصلاً ومقصوداً على الانفراد، مألوفٌ معروفٌ كقولنا نعمتك شمسٌ طالعة، وليس كذلك الحكم في الليل، لأن تجريدَه لوصف الممدوح بالسُّخْط مُسْتَكرَهٌ، حتى لو قلت أنت في حال السخط ليلٌ وفي الرّضى نهارٌ، فكافحتَ هكذا تجعله ليلاً لسخطه، لم يحسُن، وإنما الواجب أن تقول: النهار ليل على من تغضبُ عليه، والليل نهار على من ترضى عنه، وزمانُ عدوِّك ليلٌ كله، وأوقات وَلِيِّك نهارٌ كلها، كما قال:

أَيَّامُنَا مَصْقولةٌ أطرافُها ... بك واللَّيالي كُلُّها أَسْحَارُ (92) ........................ "

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير