تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم: جناس يزيد المعنى بيانا، فشبهت المعرفة بمعرفة مثلها ليتضح مراد الله، عز وجل، بلا تعقيد أو تكلف. وخص الأبناء بالذكر لكونهم الأقرب إلى النفوس من البنات، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، وهو أمر قد ركز في فطر بني آدم حتى علل به بعض الفقهاء مسائل من قبيل التخفيف في تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فينضح، بخلاف بول الجارية فإنه يغسل وإن لم تأكل الطعام، إذ النفوس تتعلق بالذكور أكثر من تعلقها بالإناث، فالذكر مظنة العناية، ولا يعني ذلك إهمال الجارية، ولكن الواقع يشهد بما يحظى به الذكر من مزيد عناية، فكثر حمله، وكثرة حمله مظنة كثرة تبوله، فيصيب حامله من بوله ما يشق غسله لتكرره، فيعفى عنه، إذ المشقة تجلب التيسير، فيكتفى فه بالنضح، وهذا كمن يكثر خروج المذي منه، فإنه يخفف فيه لمشقة تكرار الغسل فيكتفى فيه بالنضح.

ويرد على ما تقدم من قول أبي السعود، رحمه الله، أن لفظ الابن يشمل الذكر والأنثى، وفي التنزيل: (آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، و: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

والضمير في: "يعرفونه" عائد على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ففيه على أحد الأقوال الإضمار قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنِه عليه الصلاة والسلام، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، ويزيد ذلك المعنى رسوخا: الالتفات إلى الغيبة في: "يعرفونه" فكان الخطاب في الآية السابقة موجها إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومقتضى ذلك أن يكون السياق: يعرفونك ليطرد الخطاب، ولكنه التفت عنه إلى الغيبة.

وقيل مرجع الضمير إلى العلم أو سببِه الذي هو الوحيُ أو القرآنُ أو التحويل عن بيت المقدس إلى البيت الحرام، فتكون المسألة من باب الاشتراك الراجع إلى تعدد الأقوال في مرجع الضمير، وقد يقال هنا بجواز حمل المشترك على كل معانيه، إذ لا تعارض بينها، فكلها تصلح مرجعا للضمير دون فساد في المعنى.

وفي الكلام إيجاز بالحذف، إذ حذف المصدر الموصوف بالمصدر المنسبك من "ما" المصدرية وما بعدها، فتقدير الكلام: يعرفونه معرفةً كمعرفتهم أبناءهم.

وإن فريقا منهم: تنكير يفيد التكثير، فكثير منهم عرف وأنكر.

والتذييل بهذه الجملة مؤكد لما قبلها، فعلمه مستقر عندهم، وقد أكدت الجملة المذيِلة بـ: "إن"، واللام المزحلقة التي اتصلت بالمضارع لشبهه بالاسم، واسمية الجملة، وجملة: "وهم يعلمون": حال تصف صاحبها، فانقطع عذرهم بالجهل، إذ أعرضوا بعدما جاءهم العلم، وجحدوا بعدا استيقنت قلوبهم صحة رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:

الحق: "أل" للعهد والإشارةِ إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحقِّ الذي يكتُمونه، فيكون العهد فيها ذهنيا، أو هي للجنس، فتكون جنسية لبيان ماهية الحق، وفي السياق: إيجاز بالحذف، على تقدير مبتدإ محذوف يكون: "الحق": خبره، فيؤول السايق إلى: هو الحق من ربك، ويكون: "من ربك" إما حالا، أو: خبرا بعد خبر زيادة في البيان، ويرجح هذا الوجه أن فيه قطعا إلى الرفع، والقطع مظنة العناية، إذ فيه التفات يسترعي انتباه المخاطب، ويرجح كون: "الحق": مبتدأ على الاستئناف: أن الأصل عدم الحذف.

وأشار أبو السعود، رحمه الله، إلى وجه آخر بالنصب، فإما أن يكون قطعا، فيقال فيه ما قد قيل في القطع إلى الرفع، وإما أن يكون على البدلية من "الحق" في الآية السابقة، فيكون من باب البيان بعد الإجمال، إذ خص الحق في هذه الآية، على القول بأن "أل" جنسية وهي مظنة الشيوع كالنكرة فيصح مجيء الوصف بعدها مخصصا، والتخصيص مزيد بيان للمخصص.

فلا تكونن من الممترين:

في الفاء معنى التعقيب والسببية، فإذ ثبت لديك أنه الحق من ربك، فلا تشكن فيه، والنون في: "فلا تكونن" لتوكيد النهي، ففيه من التحذير ما فيه، ويقال هنا، أيضا، إن الخطاب من باب: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، فلا يلزم من النهي عن الشرك وقوعه سلفا، وإنما قد ينهى عنه بلا سابقة وجود إمعانا في التحذير، وقد يقال، ايضا، بأن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد: أمته.

وفي قوله تعالى: (من ربك): مزيد عناية وإيناس للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإفراده بالذكر في سياق الربوبية فهي ربوبية خاصة: ربوبية الحفظ والإحاطة كما أشار أبو السعود، رحمه الله، إلى طرف من ذلك.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير