إطلاق الإيمان على الأعمال، فهو من باب: إرادة البعض بإطلاق الكل، كما تقدم، فلا يخرج العمل عن كونه جزءا من الإيمان.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ:
تذييل يناسب المقام فهو: توكيد آخر لتهدئة الخواطر المضطربة، بـ: "إن" واللام المزحلقة في: "لرءوف"، واسمية الجملة قبل دخول الناسخ، وتقديم متعلق الرأفة والرحمة: "بالناس" وحقه التأخير، وجاء الوصف بالرأفة والرحمة إمعانا في تهدئة الخواطر، كما تقدم، فصفات الجمال تبعث الأمل والرجاء في النفوس، وجاء: "الرحيم" ملائما للرءوف، إذ الرأفة أخص من الرحمة، فهي رحمة وزيادة، وذلك لا يكون إلا للمؤمنين، فناسب أن يقترن بالاسم الدال على الرحمة الخاصة التي لا تكون إلا للمؤمنين، فالرحيم: ذو الرحمة الخاصة، بخلاف "الرحمن" فهو: ذو الرحمة العامة، والرحمة العامة، وإن كانت مما يحمد الله، عز وجل، به، إلا أن عمومها لا يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة التي يبعثها خصوص رحمة "الرحيم" فإن اختصاصها بالمؤمنين مزية تشرح الصدر وتسكن القلب.
و"أل" في الناس: عهدية، فالمقصود في هذا المقام: المؤمنون، إذ خصوص الرحمة، كما تقدم، لا يتعلق إلا بهم.
وقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
اللام في: "ولئن" موطئة لقسم محذوف يفيد التوكيد.
ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم: جناس اشتقاقي بين: "تبعوا" و "تابع" فالأصل الكلي الجامع لهما واحد وهو المصدر: "اتباع"، يزيد المعنى بيانا، وفي المستقبِل الذي دل عليه اسم الفاعل: "تابع" الذي يعمل عمل مضارعه فيدل على الحضور والاستقبال: أهل الكتاب في جانب والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جانب وأمته تبع له في ذلك، وفي القبلة: قبلتهم لهم وقبلتنا لنا.
وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ: إتمام للقسمة العقلية، فهم فيما بينهم مختلفون، وتنوين: "تابعٍ" مشعر بدوام ذلك على وزان: هذا قاتلٌ زيدا في المستقبل بخلاف: هذا قانلُ زيد، فقد وقع الفعل وانقضى.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ: قسم محذوف آخر مؤكد لما بعده، والشرط في: "لئن": لا يلزم منه جواز فضلا عن وجوب، فهو للتحذير، فحمله على أتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولى، وإن صح حمله على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبيان العاقبة، ولا يلزم من بيان عاقبة الشيء وقوعه، على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، والشرك في حق الأنبياء محال، وإنما سيق بيانا لمقادير الجزاء على الأعمال.
والجواب: "إنك إذا لمن الظالمين": جواب القسم المتقدم لا الشرط المتأخر، وجواب الشرط المتأخر محذوف لدلالة جواب القسم المتقدم عليه، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه منعا للتكرار المعيب، فالإيجاز بالحذف منعا للتكرار مقصود في مثل هذه المواضع.
العلم: عام أريد به خاص وهو القرآن فهو من علم الله، عز وجل، فـ: "أل" فيه: عهدية ذهنية.
إنك إذا لمن الظالمين: توكيد بـ: "إن"، و "إذا" واللام المزحلقة واسمية الجملة، ففيه من الوعيد ما يحمل العبد على اجتناب الفعل أو الإقلاع عنه إن كان ممن تلبس به.
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ:
¥