تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم عطف بالفاء التعقيبية إشعارا بلزوم المبادرة إلى الاستماع لذلك المثل العظيم، وفي الفاء معنى السببية، فما قبلها سبب لما بعدها، فإن علة الاستماع: ضرب ذلك المثل العظيم فلعل المستمع إن أصغى له أن ينتفع به فـ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

وبعد هذه التوطئة التي استرعت انتباه المخاطب وأثارت أشواقه: جيء بالمثل مصدرا بأداة التوكيد: "إن"، إمعانا في تقرير المعنى في ذهن المستمع، فقد صار قابلا لتلقي الموعظة بعدما تهيأ عقله لاستقبالها بما صدرت به الآية من مقدمات.

إن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ: الإتيان بالمضارع يدل على استمرار دعائهم من دون الله، عز وجل، فالمخاطب مقيم على شركه سادر في غيه.

وفي قوله: (لن يخلقوا ذبابا ............. ): إبطال لألوهيتهم فرعا على إبطال ربوبيتهم بنفي صفة الخلق عنهم، وهي من أخص أوصاف الربوبية، وقيد الخلق بالذباب، مع حقارته، إمعانا في إهانة هذه الآلهة الباطلة، فهي عاجزة عن خلق ذلك الكائن الحقير، فكيف بما فوقه، فكيف بالسماوات والأرض، و: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وجيء بالذباب: منكرا إمعانا في التحدي فلن يخلقوا ذبابا أي ذباب، فليس ذبابا معهودا ذا أوصاف بعينها، وإنما التحدي بخلق أي ذباب أيا كان وصفه!!!، وفي بيان عجزهم عن خلق ذباب حقير تنبيه بالأدنى على الأعلى، فهم من باب أولى عاجزون عن خلق ما فوقه.

وفي قوله تعالى: (ولو اجتمعوا له): احتراس لئلا يعترض المنكر فيقول: لا يمكنهم خلقه فرادى، وإنما يمكنهم ذلك إذا اجتمعوا، فحشدت الطاقات وأقرت الميزانيات وجهزت المعامل وسخرت العقول محادة لله، عز وجل، وقد ذكر صاحب رسالة "العلمانية"، حفظه الله وأتم شفاءه ونفع به، طرفا من ذلك، إذ كلف "ستالين" طاغية السوفييت أحد علماء دولته الملحدة وهو "أوبارين" أن يثبت علميا بأن الحياة نشأت تلقائيا من المادة ليدعم بذلك العقيدة الرسمية للدولة وفعلا أمضى أوبارين وأعضاء أكاديميته عشرين عاما في محاولات دائبة غير مجدية. إلا أنه في سنة 1955 قال: "إن النجاح الذي حققته البيولوجيا السوفييتية حديثا يؤيد "الوعد" بأن مسألة خلق كائنات حية بسيطة بطرق صناعية ليس ممكنا فحسب بل سيتحقق عما قريب!!!!.

وظل الناس يترقبون هذا الوعد ومات ستالين قبل أن تقر عينه بتحقيقه وفي سنة 1959 في المؤتمر الدولي للبحار بنيويورك لم يفاجئ "أوبارين" العلماء بقوله: "إن جميع المحاولات التي أجريت لتوليد الحياة من مواد غير عضوية سواء تحت ظروف طبيعية أو في المعمل قد باءت بالفشل"!!!.

بتصرف من: "العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة"، ص342.

ولا يرد على ذلك ما يعرف اليوم بـ: "الاستنساخ"، فإنه توظيف لخلية حية لا إنشاء لحياة من العدم، فإن ذلك ما لا يستطيعه أحد إلا الله، عز وجل، الذي يخلق تقديرا ويبرأ إيجادا ويصور تمييزا، فلكل كائن صورة تميزه عن بقية الكائنات بل التوأمان، وإن كانا متماثلين إلا أنه لا بد من نوع فرق بينهما، فبصمة الإصبع لا تتماثل بين اثنين، وإن كانا توأمين، إذ لكل صورة صوره الله، عز وجل، عليها.

وفي قوله: (ولو اجتمعوا له): إيجاز بحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه، بل في الكلام إيجاز آخر بحذف الاحتمال الآخر من احتمالات القسمة العقلية وهو: عدم الاجتماع، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه ولو لم يجتمعوا له لن يخلقوه من باب أولى، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، بقوله: " {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} أي لخلقه وجواب لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه". اهـ، وهذا أبلغ في التحدي، فهو واقع بذباب حقير، أيا كان جنسه أو نوعه أو وصفه، على جميع الأحوال الممكنة: جماعات أو أفرادا، وهيهات!!!!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير