فإذا كان ذلك وصفهم فقد ثبت بالدليل القاطع عجزهم عن وظائف الربوبية، فكيف يصح اتخاذهم آلهة تعبد من دون الله، ولذلك ذكرهم بوصف الألوهية وهو: "الدعاء" ثم نقضه بإثبات عجزهم عن الخلق، فقدح في ربوبيتهم، في مقابل ربوبيته الكاملة، فأيهما أحق بالدعاء: الرب الكامل أو الرب العاجز؟!!!.
وفي قوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ:
إمعان في بيان عجزهم فليتهم استطاعوا استنقاذ ما يسلبه الذباب من طعامهم فضلا عن خلقه!!!، وفي الشرط تحد وتعجيز لهم، فهو بمنزلة الأمر باستنقاذ ما سلبه الذباب منهم تحديا على وزان قوله تعالى: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فهو خبري المبنى طلبي المعنى، فتقديره: لتستنقذ تلك الآلهة شيئا مما سلبه الذباب منها إن كانت آلهة قادرة كما تزعمون.
وفي قوله: لا يستنقذوه منه: نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل: "يستنقذ" وهو: "الاستنقاذ" فأفاد العموم، فلن يستنقذوا منه أي شيء مما سلبه، وفي زيادة الألف والسين والتاء وهي تدل على الطلب: زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، فلو حرصوا على استنقاذه فلن يمكنهم ذلك أبدا لعجزهم الكامل.
فـ: (ضعف الطالب والمطلوب)، فعابدها ضعيف لا يملك لنفسه ضرا أو نفعا، وهي من الضعف بمكان، بل هي أضعف منه، عند التحقيق، هو الذي صنعها بيده، أو خطها بقلمه، إن كانت دساتير تعارض فيها شريعة الرحمن بزبالات أذهان المتشرعين من طواغيت بني الإنسان، أو غلا فيها وهي مثله مخلوقة مربوبة، كما غلا المثلثة في عيسى عليه السلام، وكما غلت يهود في عزير عليه السلام.
وعودة إلى آية الكهف:
فقد ذيل الآية بما يناسب الإنكار الشديد على تلك المقالة فقال:
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ: فأسلوب الذم مئنة من الإنكار الشديد، وفي السياق إيجاز بحذف المخصوص بالذم لدلالة التمييز: "كلمةً" عليه، فتقدير الكلام: كبرت كلمة الكلمةُ التي تخرج من أفواههم، فقدر المحذوف لدلالة المذكور عليه، وهذا أمر مطرد في آيات الكتاب العزيز، فحذف ما يعلم بدلالة السياق مئنة من بلاغة الكلام، فكيف بكلام الباري، عز وجل؟!!.
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا: إنكار آخر يناسب عظم البهتان الذي افتروه، وقد أكد بأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء، وهو قصر إضافي يتعلق بتلك المقالة بعينها، فليس قصرا حقيقيا، إذ لا يخلو كلامهم الآخر من حق، كأي بشر يوجد في كلامه حق يقبل وباطل يرد، ولكنهم لما افتروا تلك المقالة على الباري، عز وجل، جاء الرد قويا، فكأنهم بتلك الفرية قد أهدروا كل مصداقية لهم، فكل كلامهم كذب، وهذا على سبيل المبالغة في الإنكار، وهو ما يقتضيه السياق كما تقدم.
ثم تنتقل الآيات إلى قصة أصحاب الكهف وفيها قوله تعالى:
"إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" فقد طلبوا عطاء الربوبية فرعا على كمال ألوهيتهم لله، عز وجل، بدليل أنهم أفردوه بالدعاء.
وقوله تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا):
استعار فيه الرباط الحسي للرباط المعنوي تصويرا لثباتهم بتأييد الله، عز وجل، لهم، وكالعادة: يستدل الموحد على كمال ألوهية الله، عز وجل، بكمال ربوبيته في ثنائية مطردة في كل آيات الكتاب العزيز، فدلالة الربوبية على الألوهية: دلالة التزام، فالربوبية: مقدمة والألوهية: نتيجة، إذا صح عقل المستدل، فـ: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، له الربوبية العامة التي تدل عليها "أل" الجنسية المستغرقة لعموم ما دخلت عليه في "السماوات" و "الأرض"، والنتيجة: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، فلن نصرف عبادة الدعاء لمعبود سواه، إذ لا معبود
¥