تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهل هذا النفي الحاصر القاصر بأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) يصدر ممن يتشكك فيما أتى به؟!!!.

وبعد ذلك يأتي الاستفهام: "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ " أي: الله يرزقكم، فحذف المسند إيجازا لدلالة السؤال عليه، وهو سؤال تقرير لا استعلام، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجهل الجواب، وإنما أراد استنطاق الخصم بالحجة إمعانا في إلزامه بها، وذلك من أبلغ ما يكون في إقامة الحجة على المخالف، وجاء الرد عقيب ذلك مباشرة بلا شك أو تردد: الله، فهل هذا خطاب شاك متردد.

ثم جاء النص محل النزاع بعد كل تلك التقريرات الجازمة: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فجاء الظرف في الهدى ظرف استعلاء، إذ الهدى مظنة استعلاء صاحبه، مصداق قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، و: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، وجاء في الضلال ظرف إحاطة وانغماس وذلك بحال الضلال أليق فصاحبه منغمس فيه غارق في دياجيره.

وإلى ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها". اهـ

وبقي أن يقال بأن استعمال "أو" في هذا السياق هو من باب: التنزل مع الخصم بإنصافه في الخطاب، ولو كان قوله باطلا وحجته متهافتة، على وزان قول المظلوم لمن ظلمه: قتل الله الظالم منا، والظالم معلوم ابتداء.

وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:

"وهذا من الإنصاف في الخطاب الذي كل من سمعه من ولى وعدو قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك كما يقول العادل الذي ظهر عدله للظالم الذي ظهر ظلمه: الظالم أما أنا وإما أنت لا للشك في الأمر الظاهر ولكن لبيان أن أحدنا ظالم ظاهر الظلم وهو أنت لا أنا". اهـ

"الجواب الصحيح"، (2/ 91، 92).

وكذلك أشار إليه أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ". اهـ

وأبو حيان، رحمه الله، في "البحر المحيط" بقوله:

"والمعنى: أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال. ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال. وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:

فأني ماوأيك كان شراً ******* فسيق إلى المقادة في هوان

وقال حسان:

أتهجوه ولست له بكفؤ ******* فشركما لخيركما الفداء. (وهل يشك عاقل في أن حسان، رضي الله عنه، كان يعلم خيرهما من شرهما، وهل أحد من البشر، مؤمنهم وكافرهم، خير من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف بخصومه الذين هجوه من الكفار الأصليين، أيتطرق الشك إلى نفس عاقل في أنه خير منهم وأعلى منزلة؟!!!).

وهذا النوع يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب. يذكر له أمراً يسلمه، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله. وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه، فقال لهم بطريق الاستدلال: إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة، ولا تنفع ولا تضر، لأنها جماد، وهم يعلمون ذلك، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير