وهذا أسلوب جار على لسان العرب، وقد ورد نحوه في قوله تعالى في سورة مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).
فقدم احتمال كونه كاذبا مع تيقنه من صدقه إمعانا في إظهار النصح لقومه، فليس منحازا إلى صفه، بل هو ناصح لهم مشفق عليهم مما قد يصيبهم إن كان صادقا في نفس الأمر، وذلك غاية الإنصاف في الخطاب.
وإليه أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:
"ثم أخذَهُم بالاحتجاجِ من بابِ الاحتياطِ، فقالَ {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطَّاهُ وبالُ كذبِه فيُحتاجَ في دفعه إلى قتلِه {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ} أيْ إنْ لَم يُصبكم كلُّه فلاَ أقلَّ منْ إصابةِ بعضِه لا سيَّما إنْ تعرضتُم له بسوءٍ، وهَذا كلامٌ صادرٌ عن غايةِ الإنصافِ وعدمِ التعصبِ ولذلكَ قدَّمَ من شِقَّيْ الترديدِ كونَهُ كاذباً أو يُصبْكُم ما يعدُكُم من عذابِ الدُّنيا وهو بعضُ ما يعدُهم كأنَّه خوَّفُهم بما هو أظهرُ احتمالاً عندَهُم". اهـ
وأبو حيان، رحمه الله، بقوله:
"وقال صاحب التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلاً يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، {أن يقول ربي الله}، ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله، أو هو نبي الله، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا أنه متعصب.
ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله: {وإن يك كاذباً}، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله: {وإن يك صادقاً}، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب}. انتهى". اهـ
ومثله قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
فجاء بالشرط: إن كنت على بينة من ربي، ولم يقل أحد بأنه شاك فيما جاء به من الحق، وإنما تنزل معهم في الخطاب استدراجا.
وإليه أشار أبو حيان، رحمه الله، في "البحر المحيط" بقوله: "قال: يا قوم أرأيتم إن كنت هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن، واستدعاء رقيق، ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك خطيب الأنبياء» وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض، وقد ورد منه في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وفي قصة نوح وهود وصالح، وفي قصة مؤمن آل فرعون مع قومه". اهـ
وذلك، عند التحقيق، مئنة من بلاغة الكتاب المنزل، لا داعٍ إلى التشكيك فيه، وعذر من توهم ذلك عجمة اللسان وقصور الفهم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 01 - 2009, 08:38 ص]ـ
ومثله في قطع النص عن سياقه الذي ورد فيه:
¥