تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، فاللام في: "لكم": مشعرة بالاختصاص وتقديم ما حقه التأخير مئنة من ذلك، فليس الأمر إقرارا بل هو براءة من دين الكفار، على وزان قوله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)، فإنه يقال فيه ما قد قيل في الآية السابقة من إشعار اللام بالاختصاص، وتقديم ما حقه التأخير، وجاء النص على البراءة من المخالف في هذا السياق قطعيا لا يقبل الظن على جهة المقابلة، التي استوفت حد البراءة من الطرفين، فإن البراءة أشد ما تكون إذا كانت متبادلة بين أطراف النزاع، فلا يبقي أحدهم على ود خصمه أو صلته، بل هي مفاصلة تامة.

والنظر إلى الآية في سياقها يزيل شبهة إقرار الكافر على كفره: إقرار الراضي المحب، إذ صدرت السورة بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، والنداء بالصفة المشبهة المشتقة من معنى الكفر الذي هو الجحود وستر الإيمان مئنة من الإنكار وعدم الإقرار، فهل يرضى أحد عن دين غيره إذا وصفه بالكافر، ولا يلزم من ذلك قتله إن كان معاهدا أو ظلمه إن كان بريئا، فإن الشأن في أمر العقائد غير الشأن في أمر المعاملات اليومية، فالأولى: خط أحمر بلغة ساسة العصر!!!، والثانية: مما يجمل بالمرء التسامح فيه، فأمور المعاش مما يستوي فيه البر والفاجر، فكل يأكل ويشرب وينام ................ إلخ فلا اختصاص لأحد بها لتصير معقد ولاء وبراء كالأديان التي هي محط الابتلاء وموضع الامتحان، فلا يمتحن الناس في قبورهم بأمر دنياهم وإنما يمتحنون بما كسبت قلوبهم.

وبعدها جاءت البراءة: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" على طريقة المقابلة أيضا، وتسلط النفي على عموم: "ما" فلا أعبد الإله الذي صفته صفة إلهكم، وإن اشترك الكل في اسم: "الله"، فإن كلا يدعي أنه يعبد الله، والعبرة بالمعاني لا بالمباني.

ثم كرر ذلك توكيدا: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"

ثم جاء النص باختصاص كلٍ بدينه، فلكل مقالته في الإلهيات، والحق واحد لا يتعدد، وهو ما جاءت به النبوات.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وكذلك قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. فإن هذه الكلمة كقوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه كما قال: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ولهذا قال النبي في: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}: "هي براءة من الشرك".

وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين وجعلوها منسوخة بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم.

وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين}. فظن هذا الملحد أن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} معناه أنه رضي بدين الكفار ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب.

وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} لا يدل على رضاه بدينهم بل ولا على إقرارهم عليه بل يدل على براءته من دينهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه السورة براءة من الشرك".

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وكذلك قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}. وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الآية أني لا آمر بالقتال ولا أنهي عنه ولا أتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه.

وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ". اهـ

"الجواب الصحيح"، (2/ 36، 37).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير