"وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام بذلك الفعل. وقد تكرر في القرآن، قال تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} [الشعراء: 130] وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} [الفرقان: 72].
وقوله: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام لتعدية فعل {أحسنتم}، يقال: أحسنت لفلان". اهـ
وعلى الجانب الآخر: من قبيل: الطباق أو المقابلة:
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا: أي عليها، وذلك من شؤم المعصية في مقابل يمن الطاعة، فالحكم مطرد منعكس، فاطراده: ثبوت الحكم زيادة أو نقصانا لوجود العلة أو عدمها، فمتى كانت طاعة كان الإحسان بالزيادة، ومتى كانت معصية كانت الإساءة بالنقصان، فهذا قياس الطرد، وانعكاسه: ثبوت ضده بوجود ضد وصفه، فيثبت ضد الوعد من الوعيد إذا لم توجد علة الوعد من الطاعة، ويثبت ضد الوعيد من الوعد إذا لم توجد علة الوعيد من المعصية، فهذا قياس العكس، وهو أمر مطرد في كل سياق ورد فيه وعد أو وعيد، وهو عام، كما تقدم، بالنظر إلى معناه الكلي الجامع، فذلك الأصل في باب: الثواب والعقاب.
ولذلك: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا:
إذ كفروا، كما تقدم، بالمسيح عليه السلام، بل وسعوا في قتله، فأنجاه الله، عز وجل، منهم، وتحقق فيهم الوصف الموجب للعقوبة الكونية، فسلط الله، عز وجل، عليهم هذه المرة: "طيطس" القائد الروماني، كما نقل ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح" عن المؤرخ النصراني "ابن البطريق": "ذكر أن طيطس خرب البيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم وقتل كل من كان فيها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهم الصخور.
وخرب المدينة والهيكل وأضرم بها النار وأحصى القتلى على يديه فكانوا ثلاثة آلاف ألف"
فذلك وعد الآخرة في قوله تعالى: (وَعْدُ الْآَخِرَةِ).
وإسناد الإساءة إلى الوجوه من باب إطلاق المسبَّب وإرادة سببه مما يستجلب به سواد الوجوه من جنس الإهانة والإذلال الذي لا يفارق وجوه الأمم المغلوبة. إلا إن كان الفتح برسم النبوة، فإنه رحمة بالقلوب والأبدان فلا تعلو الوجوه به مهانة أو مذلة، إذ القلوب آمنة مطمئنة.
وقد فعل بهم طيطس ما فعل لما استباح بيت المقدس، وفعل عمر، رضي الله عنه، بهم ما فعل يوم فتح بيت المقدس، وكل يعمل على شاكلته، فذلك غزو طيطس وهذا فتح الخليفة الشهيد رضي الله عنه.
ودخولهم: دخول غزو غاشم لا فتح راحم، إذ ليس لسيفهم نصيب من تركة النبوة ليرحم المخالف أو يعدل معه، فلا حرية: "للآخر"!، ولا احترام لدينه أو مساجده أو سائر حرماته، ولعل ما اطرد بعد ذلك من دخول أعداء الملة الخاتمة بلاد المسلمين: برسم الغزو والاستباحة خير شاهد على ذلك، فدخولهم بيت المقدس بعد ذلك قد استبيحت فيه دماء سبعين ألفا من الموحدين، ودخولهم أرض البلقان قد استبيحت فيه دماء مئات الآلاف، ودخولهم العراق قد استبيحت به دماء أمة من البشر تجاوز عددها المليون، وذلك فرقان بين طريقة النبوة وطريقة أعدائها. فهي، كما تقدم، رحمة للموافق والمخالف، وتلك نقمة على الموافق قبل المخالف وحال جنود أمريكا خير شاهد على ذلك وعلى نفسها جنت براقش.
فمتى أحسنا رد إلينا المسجد الأسير، كما رد لعمر وصلاح الدين، ومتى أسأنا سلب منا كما سلب إبان الحملة الصليبية الغابرة، وإبان الحملة اليهودية المعاصرة، مع تبجح الزعيم الخالد آنذاك وتشدقه بعبارات الفتح!، ولم يكن الله، عز وجل، ليفتحها على يد عصابة من الأشرار نصبت العداء لدينه في أرض الإسلام، فذلك خلاف السنة الكونية التي سبقت الإشارة إليها مرارا، وبيت المقدس لا يفتح إلا برسم النبوة، وإن كابر صناع القرار من أصحاب موائد الحوار المستديرة!.
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا: إمعان يالإطناب في تقرير العقوبة الكونية، كما أمعن بالإطناب في الآية السابقة في تقرير المنة الربانية بالرجوع وكثرة الأموال والبنين والنفير. فذلك جار على ما اطرد في التنزيل من الجمع بين المتقابلات إذ بضدها تتميز الأشياء كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
والله أعلى وأعلم.