تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فكل تلك الأمثلة مما اشتهر في لغة العرب، فلو قيل بأنه مجاز فهو مجاز مشتهر ينزل منزلة الحقيقة العرفية التي تقدم على الحقيقة اللغوية، فتقديمه على الحقيقة اللغوية، مع كونه مجازا من جهة التقسيم الاصطلاحي، راجع إلى استعمال اللسان لا إلى قوانين المجاز العقلية.

فكذلك الاستعارة أكثر العرب من استعمالها، حتى صارت فنا من فنون التخاطب عندهم، فصارت حقيقة في كلامهم، لا سيما ونافي المجاز يعول دائما على السياق الذي يدل على المعنى المراد من اللفظ بلا كلفة عقلية.

الشاهد أنه لا بد من ملاحظة السياق الذي يرد فيه اللفظ قبل تفسيره، وإلا وقع الخطأ في تعين مراد المخاطب بنزع ألفاظه من سياقاتها، فتحمل ما لا تحتمل كحال كثير من أصحاب الأهواء والمقالات الحادثة الذين يقتطعون من النصوص ما يشهد لمقالاتهم دون نظر إلى السياق الذي ينقضها في كثير من الأحيان. فحالهم حال من يتتبع المتشابه القليل ويعرض عن المحكم الكثير.

فالنصارى يقتطعون من آية النساء قوله تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ)، ويعرضون عن بقيتها: (فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)، وهي ناقضة لقولهم بألوهية المسيح عليه السلام.

والمعتزلة يقتطعون من سياق آيات المدثر قوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، ليستدلوا به على نفي الشفاعة لعصاة الموحدين، وسياق الآيات إنما ورد في بيان حال الكفار لا أصحاب الكبائر من الموحدين.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض حجاج مثبتي المجاز، كما في "مختصر الصواعق المرسلة":

"إنكم فرقتم أيضا بينهما، (أي: بين الحقيقة والمجاز)، بأن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن فالمدلول إن تبادر إلى الذهن عند الإطلاق كان حقيقة، وكان غير المتبادر مجازا. فإن الأسد إذا أطلق تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع، فهذا الفرق مبني على دعوى باطلة وهي تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية والنطق به وحده وحينئذ يتبادر منه الحقيقة عند التجرد. وهذا الفرض هو الذي أوقعكم في الوهم فإن اللفظ بدون القيد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها لا تفيد فائدة، وإنما يفيد تركيبه مع غيره تركيبا إسناديا يصح السكوت عليه وحينئذ فإنه يتبادر منه عند كل تركيب بحسب ما قيد به فيتبادر منه في هذا التركيب ما لا يتبادر منه في هذا التركيب الأخير". اهـ

فيكون "الأسد" في قولك: "رأيت أسدا يفترس غزالا": حقيقة في الحيوان المفترس بقرينة: "يفترس" وهي قرينة سياقية معتبرة في فهم مراد المتكلم، ويكون "الأسد" في قولك: "رأيت أسدا يرمي في الميدان": حقيقة بقرينة: "يرمي"، فلا يعلم مراد المتكلم إلا من سياق كلامه.

&&&&&

&&&&&

وتطرق ابن تيمية، رحمه الله، إلى نقض دعوى: نقل اللغة بالتواتر، إذ يلزم من ذلك أن الله، عز وجل، علم آدم، عليه السلام، كل اللغات المعروفة اليوم، على القول بوضع اللغات، وأن كل من كان بالسفينة مع نوح، عليه السلام، نقلوا ما نعرفه اليوم من لغات، وهذا أمر غير متصور، لأنهم كانوا عددا محدودا من البشر يعيش في بلد واحد، والعادة المطردة في أهل البلد الواحد: أنهم يتكلمون بلغة واحدة فقط، وإن حصل اختلاف في الألسنة فهو اختلاف لهجات لا لغات.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ "اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ" كَالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير