تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن ثم ناقش ابن تيمية، رحمه الله، تقسيم اللغويين للحقيقة، سواء أكانت قسمتهم ثناية (لغوية وعرفية)، أم ثلاثية (لغوية وعرفية وشرعية)، ورجح الحقيقة العرفية المشتهرة على الحقيقة اللغوية، واعتبر الأولى ناسخة للثانية، وهي مع كونها نقلت عن أصلها اللغوي بقرينة عرفية إلا أنها لم تصر: مجازا، وإنما بقيت على حقيقتها، وإن قيدت بكونها: عرفية، فهذه حقيقة، ومع ذلك لم يثبت لها وضع أول، بل على العكس من ذلك: الوضع الأول ثابت للحقيقة اللغوية التي نقلت منها، وعليه يبطل القول بأن مدار الحقيقة على أصل الوضع، إذ قد يكون اللفظ حقيقيا بوضع ثان نقل من وضع أول بتقييد عرفي.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"ثُمَّ يُقَسِّمُونَ الْحَقِيقَةَ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَأَكْثَرُهُمْ يُقَسِّمُهَا إلَى ثَلَاثٍ: لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ. "فَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ": هِيَ مَا صَارَ اللَّفْظُ دَالًّا فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَكُونُ تَارَةً أَعَمَّ مِنْ اللُّغَوِيِّ وَتَارَةً أَخَصَّ وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ اُسْتُعْمِلَ لِأَجْلِهَا. فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ لَفْظِ "الرَّقَبَةِ" وَ "الرَّأْسِ" وَنَحْوِهِمَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ. وَالثَّانِي مِثْلُ لَفْظِ "الدَّابَّةِ" وَنَحْوِهَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا دَبَّ ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْفَرَسِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِهِمْ فِي الْحِمَارِ. وَالثَّالِثُ مِثْلُ لَفْظِ "الْغَائِطِ" وَ "الظَّعِينَة" وَ "الرَّاوِيَةِ" وَ "الْمَزَادَةِ" فَإِنَّ الْغَائِطَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنْ الْأَرْضِ، فَلَمَّا كَانُوا يَنْتَابُونَهُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ سَمَّوْا مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، وَالظَّعِينَةُ اسْمُ الدَّابَّةِ ثُمَّ سَمَّوْا الْمَرْأَةَ الَّتِي تَرْكَبُهَا بِاسْمِهَا وَنَظَائِرَ ذَلِكَ. وَ "الْمَقْصُودُ" أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ لَمْ تَصِرْ حَقِيقَةً لِجَمَاعَةِ تَوَاطَئُوا عَلَى نَقْلِهَا وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَأَرَادَ بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ ثُمَّ شَاعَ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَلِهَذَا زَادَ مَنْ زَادَ مِنْهُمْ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا التَّخَاطُبُ ثُمَّ هُمْ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ أَشْهَرَ فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَيْهِ فَتَصِيرُ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ نَاسِخَةً لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَادِثِ لِلْعُرْفِيِّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ ذَلِكَ تَقَدُّمُ وَضْعٍ، فَعُلِمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْحَقِيقَةِ بِهَذَا لَا يَصِحُّ"

"الإيمان"، ص64.

&&&&&

وتطرق ابن تيمية، إلى مسألة غاية في الأهمية أشبعها بحثا في أكثر من موضع من كتبه، وهي مسألة:

الدلالة المطلقة والدلالة المقيدة للألفاظ، فعمدة من قال بالمجاز أنه جرد الألفاظ عن أي قيد، فجعلها مطلقة، وقال بأن هذا المعنى المطلق عن أي قيد هو: حقيقتها، مع أن أحدا لم ينطق بها مجردة، لعدم إفادتها مجردة معنى موجودا في الخارج، فاللفظ المطلق لا يوجد إلا في الأذهان، فإذا ما قيد صارت له حقيقة في خارج الذهن تبعا لمقيده، وهذه هي القاعدة التي أبطل بها ابن تيمية، رحمه الله، حجة القائلين بالوجود المطلق من الاتحادية، إذ جعلوا الوجود كله: واحدا بالعين، فوجود زيد هو عين وجود عمرو، ووجود الخالق، عز وجل، هو عين وجود المخلوق لمجرد الاشتراك في معنى الوجود الكلي المطلق!!!!، مع أن الصحيح أنه: واحد بالنوع، فنوع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير