تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويضرب مثلا بألفاظ "السواد" و "البياض"، فإنها لا توجد في الخارج إلا مقيدة بمن يتصف بها، فيقال: هذا أسود، وهذا أبيض، يضرب المثل بذلك فيقول:

"فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ". اهـ

"الإيمان"، ص71.

وهذا صنيع أمثال ابن فارس، رحمه الله، في معجمه، فإنه اهتم ببيان مواد المعاني الكلية المطلقة، فيقول على سبيل المثال: (الباء والثاء أصلٌ واحد، وهو تفريق الشيء وإظهاره)، فعرف "البث" مطلقا، وهو إنما يوجد خارج الذهن مقيدا بباث ومبثوث بعينه، كما في قوله تعالى: (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)، فذلك معنى جزئي مقيد تفرع عن معنى البث الكلي المطلق وعلى هذا فقس في باب المعاني الكلية المجردة التي لا يعلم مراد المتكلم إلا بإثباتها.

ويقول في خاتمة هذا المبحث: "فما لم ينطق به إلا مضافا أولى أن لا يكون مجازا"، لأنه صار حقيقة في معناه بعد الإضافة، فلم يستعمل مطلقا ليقال بأن في تقييده بالإضافة صرفا له عن وضعه الأول بقرينة فيكون مجازا من هذا الوجه.

&&&&&

ثم عرض ابن تيمية لأهم الأيات التي استدل بها من قال بوقوع المجاز في القرآن، فذكر:

قوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، إذ يقول مثبتو المجاز: إن الذوق وضع أولا للفم فصار حقيقة فيه، واللباس وضع أولا لما يلبس على البدن فصار حقيقة فيه، ومن ثم نقل بالاستعارة إلى المعنى المراد في الآية، والرد من وجهين:

الوجه الأول: أنه لا يسلم بهذا الوضع الأول، كما تقدم، فهو دعوى معارضة بدعوى، إذ ما المانع أن يكون الأمر بالعكس فيكون الذوق واللباس قد وضعا ابتداء للدلالة على المعنى الذي يدعون أنه مجاز، فيكون فيه حقيقة، ويكون في المعنى الذي أثبتوه حقيقةً: مجازاً، وهذه دعوى مطردة في كل ما ادعي أنه حقيقة في الوضع الأول في كذا، مجاز في الوضع الثاني في كذا.

والوجه الثاني: أن هذه الأفراد قد تشترك في معنى الذوق الكلي وهو: وجود طعم الشيء، ولا يلزم من ذلك تماثلها، وإنما يكون الأمر من باب: "التواطؤ اللفطي" أو: "الاشتراك المعنوي"، فهي مشتركة في أصل المعنى دون فرعه، إذ لا إشكال في وقوع الشركة في المعاني الكلية المطلقة.

يقول ابن تيمية:

"وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ: الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ، (أي: مطلقا عن أي قيد)، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، (أي: على المعنى المراد مقيدا). قَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}. وَقَالَ: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. وَقَالَ: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}. وَقَالَ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} - {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} {إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا". وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: "أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك". فَلَفْظُ "الذَّوْقِ" يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير