عُمِّرَ لِلسُّكْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرَى وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَفْظُ "الْإِنْسَانِ" يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً لِتَلَازُمِهِمَا؛ فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا؛ فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا. فَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. مِثْلُ قَوْلِهِ {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً}. فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ". اهـ
"الإيمان"، ص73.
فتكلف دلالة النص على مضاف محذوف اقتضاء لا حاجة إليه وإن كان صحيحا من جهة التصور العقلي، لا حاجة إليه إذ المخاطب قد أدرك المعنى المراد ابتداء دون حاجة إلى تقدير محذوف، والأصل عدم الحذف فلا يعدل عنه إلا لضرورة، ولا ضرورة هنا، كما تقدم، لوضوح المعنى المراد ابتداء.
&&&&&
وكذلك في قوله تعالى: (جدارا يريد أن ينقض)، إذ قال مثبتو المجاز: الإرادة حقيقة في الحيوان مجاز في الجماد، والجدار جماد، والرد، أيضا، من وجهين:
الأول: أن هذه دعوى مقابلة بدعوى: فما المانع أن تكون الإرادة قد ثبتت أولا للجماد ثم نقلت للحيوان، فكلا الطرفين عاجز عن إثبات الوضع الأول فتكافآ.
الثاني: أن المعنى الكلي للإرادة: الميل، والحيوان النامي والجدار الجامد كلاهما يشترك في المعنى الكلي المطلق للإرادة، فإذا ما قيد الميل بميل الجدار فهو: حقيقة فيه، وإذا ما قيد بميل الحيوان، فهو حقيقة فيه، فتكون المسألة من باب التواطؤ في معنى: "الميل" الكلي المطلق.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}. قَالُوا: وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ. فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ"
"الإيمان"، ص70.
وبهذا التقرير رد، رحمه الله، على منكري صفات الأفعال كالغضب والضحك، لأنها، على حد قولهم تستلزم معان تقوم بالبشر يتنزه الباري، عز وجل، عنها، فكذلك الشأن من باب الإلزام في صفة الإرادة، فهي في حق البشر: ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، وذلك معنى يتنزه عنه الباري، عز وجل، لتمام غناه عن خلقه فلا يحتاج إلى ما تحتاجه الخلائق من أسباب تستجلب بها المنافع وتستدفع بها المضار، فلماذا ينفى الغضب وتثبت الإرادة، أليس ذلك تفريقا بين متماثلين؟!، فإما:
أن يثبت الكل على الوجه اللائق بجلال الله، عز وجل، إذ الإثبات إنما يتوجه إلى المعاني الكلية، كما تقدم، ولا تشبيه مذموم في ذلك، فالتشبيه المذموم إنما يكون في الحقائق الجزئية لا المعاني الكلية، فيقول الممثل: له يد كيدي، تعالى الخالق، عز وجل، عن ذلك.
وإما أن ينكر الكل، فيكون قد وقع في التعطيل الكامل مذهب نفاة صفات الباري، عز وجل، بزعم تنزيهه عن مشابهة الحوادث!!!.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في الأصل الأول من "التدمرية":
¥