ومن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
في النداء استرعاء لانتباه المخاطب، وقد علق الأمر على وصف الإيمان الذي اشتقت منه الصلة، ومع ذلك صح توجه الخطاب لغيرهم إذ الكل في وجوب التكليف سواء فيكون الخطاب موجها إليهم أصلا، ولغيرهم فرعا، فهم من جملة المكلفين، وذكر بعض أفراد العموم لا يخصصه، وإنما ذكروا لما تقدم من اختصاصهم بخطاب الوحي الذي آمنوا به فهم أولى الناس بالاستماع والامتثال، فضلا عن كون الخطاب مفتقرا إلى مسند يصح تعلقه به، وهذا أمر مشترك في جميع صور الخطاب سواء أكان المخاطب مؤمنا أم كافرا، ذكرا أم أنثى ......... إلخ.
هل أدلكم: تشويقية فيها معنى العرض برفق تلطفا مع المخاطب على وزان: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى)
تجارة: استعارة تجارة أهل الدنيا لتجارة أهل الآخرة.
أليم: فعيل بمعنى اسم الفاعل من باب تبادل الصيغ مبالغة في التحذير من العذاب بسوقه على على أحد أوزان المبالغة.
تؤمنون: خبر أريد به الإنشاء مبالغة في التوكيد، فكأنهم لسرعة امتثالهم قد باشروا المأمور به فعلا.
وتجاهدون: عطف خاص على عام تنويها بذكره.
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: إشارة إلى ما انقضى قريبا بإشارة البعيد مئنة من علو شأنه، أو على عادة العرب في ذلك، و: "لكم": دالة على اختصاص المخاطبين بالوعد، عناية بشأنهم.
خير: أفعل منزوعة التفضيل فلا وجه للمقارنة بين الإيمان في مقابل الكفران، والجهاد في مقابل القعود، ليقال بأن هذا خير من هذا إذ لا خير في الكفر والقعود أصلا.
وفي الشرط "إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": إلهاب لامتثال الأمر على وزان: إن كنت رجلا فافعل.
يغفر: إيجاز بالحذف انتقالا إلى محط القائدة مباشرة، فحذف الشرط الذي جزم المضارع في جوابه، إذ تقدير الكلام: إن تؤمنوا بالله وتجاهدوا في سبيله يغفرلكم.
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:
إطناب يقتضيه مقام الوعد فعطف الخاص: "المساكن" على العام: "جنات"، أو الجزء على الكل.
وأشار إليه إشارة البعيد تعظيما على ما تقدم في: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[أبو سهيل]ــــــــ[27 - 02 - 2009, 02:41 م]ـ
جزاك الله خيرا على هذا الجهد الطيب
ضاعف الله لك الأجر
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 02 - 2009, 07:22 ص]ـ
وجزاك خيرا أخي أبا سهيل وضاعف لك الأجر وأجزل لك المثوبة.
ومن قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
في السياق: طباق بين النصر والغلبة التي ترادف الهزيمة، فإن أفاض الله، عز وجل، عليكم من عطاء ربوبيته فأنزل عليكم نصره، وألهمكم مباشرة أسبابه من العلم والعمل، من عقد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، من إعداد العدة ............... إلخ، فلا غالب لكم، فتسلط النفي على النكرة، فأفاد العموم، وفي ذلك من إلهاب الهمم وحملها على مباشرة أسباب النصر، فالشرط سيق مساق التهييج والإلهاب، شأنه في ذلك شأن كل شرط تضمن وعدا يحمل السامع على الفعل، أو وعيدا يحمله على الترك.
وإن يخذلكم: مقابلة بين النصر والخذلان في الشرط، والغلبة والنصرة في جواب الشرط
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ: استفهام إنكاري إبطالي إذ لا ناصر إلا الله، والاستفهام الإنكاري في سياق الوعيد أبلغ دلالة من الخبر المجرد، فهو أقوى في الزجر من قولك في غير القرآن: فلا ناصر لكم، فكما أن للرب، جل وعلا، عطاء بالنصر، فإن له منعا بقطع أسبابه، وذلك مئنة من كمال ربوبيته القاهرة، فهو الفعال لما يريد، خالق النصر وضده، معطي الخير ومانعه، مجري السبب ومبطله، فإن شاء نصر فضلا، وإن شاء خذل عدلا.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: تقديم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا، وعلق التوكل بالله، عز وجل، إشارة إلى واجب التأله على العبد، فرعا عن عطاء الربوبية من الرب، جل وعلا، فالتوكل عبادة قلبية، وتوحيد العبادة قلبية كانت أو لسانية أو بدنية: هو توحيد الألوهية المتعلق بوصف الألوهية الذي اشتق منه لفظ الجلالة: "الله"، مراد الله، عز وجل، من عباده، مصداق قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وعلق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه الصفة المشبهة: وصف الإيمان، فليس ذلك إلا لمن وقر الإيمان في قلبه، وقد يقال بأن في السياق حذفا دل عليه السياق إذ تقدير الكلام: وعلى الله فليتوكل المؤمنون حقا، فإن وصف الكمال لا يناله إلا من أخلص العبادة، فحقق تمام التوكل، ولو أخذ في الاعتبار أن الخبر، أيضا، لإلهاب الهمم على وزان: المجتهد من ينجح في الامتحان، فإن فيه حضا ضمنيا على الاجتهاد، فكذلك في الآية: حض ضمني على إخلاص العبادة وإكمال الإيمان، ولا يتصور ذلك إلا إن كان المراد بوصف الإيمان فيها: الإيمان الكامل المستلزم للنجاة يوم العرض، فلا يتصور أن يكون المراد في سياق الحض: مجرد تحقيق مطلق الإيمان الذي يخرج به المكلف من حد الكفر!!!، أو الإيمان الناقص الذي لا يخرج صاحبه من دائرة الوعيد، كأن يكون من عصاة الموحدين أصحاب الكبائر، فإن معهم من الإيمان أصله دون كماله، وليس ذلك بصالح لأن يعلق عليه أمر تسعى إليه الهمم العالية والنفوس الكاملة.
والله أعلى وأعلم.