[المنفلوطي .. وفن حسن التعليل]
ـ[فريد البيدق]ــــــــ[26 - 02 - 2010, 10:52 ص]ـ
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ** لما رأيت عليها عقد منتطق
فإن الجوزاء لا تنتطق، ولو كان هذا الذي نراه يستدير بها نطاقا فهو شيء متصل بها قبل أن يخلق الممدوح ويخلق آباؤه الأولون والآخرون إلى آدم وحواء.
والكواكب ليست أشخاصا أحياء يتخذ منها الناس خدما وخوَلا لأنفسهم، ولو كانت كذلك لاستحال عليها وهي من سكان السماء أن تهبط إلى الأرض لتخدم سكانها؛ فقد كذب وأحال أربع مرات في بيت واحد، ثم عجز بعد هذا كله أن يترك في نفس السامع صورة تمثل جلال ممدوحه وعظم شأنه؛ فهو في الحقيقة إنما يريد ببيته هذا أن يمتدح نفسه بالإبداع وقوة التخيل، لا أن يمتدح ممدوحه برفعة الشأن وعلو المقام.
أو يقول:
ما به قتل أعاديه ولكن ** يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
فإن الذي يحمل قي صدره قلبا رحيما مشفقا على الذئاب من الجوع مستعظما أن يخلفها ما عودها إياه من طعام وشراب لا يمكن أن يكون هو نفسه ذئبا ضاريا يريق دماء الناس ويمزق أحشاءهم، ويقطع أوصالهم؛ ليملأ بها بطون الوحش.
ولا يوجد بين الأسباب التي تحمل الناس على القتال سبب يشبه هذا السبب الذي ذكره، على أن المحسن لا يكون محسنا إلا إذا وهب ما يهب من ماله ومن خزائن بيته، فأما أن يقتل الناس تقتيلا ويمثل بهم ثم ينعم بجثثهم على الجائعين والظماء من وحوش الأرض وذئابها فذلك شيء هو بالجنون أشبه منه بالإحسان.
أو يقول:
لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ** أن يرى طيف مستميح رواحا
فإن النوم قوام حياة الإنسان وعماد حياته ولازم من لوازمه اللاصقة به، أراد ذلك أو لم يرد. فإذا كان لا بد من دخوله في باب الاختيار فإن من أبعد الأشياء عن التصور والفهم أن يكون ما يحمل الإنسان على طلب النوم رجاؤه أن يرى فيه الأحلام والرؤى.
فإن فعل فلا يدخل في باب أغراضه وأمانيه أن ينام ليرى خيال جماعة المتسولين وهم ملء الأرض وهباء الجو وأرصاد الأعتاب وأعقاب الأبواب، لا تنفتح الأعين إلا عليهم، ولا تمتلئ الأنظار إلا بهم، فهم لم يبلغوا في الضن بأنفسهم والعزف بها مبلغ من لا يراه الرائي ولا يعثر به إلا إذا ألقى في طريقه حبائل الأحلام ليصطاده بها.
أو يقول:
لم يتخذ ولدا إلا مبالغة .. في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
فإن الأولاد لا يتخذون اتخاذا، وإنما ينعم الله بهم على من يشاء من خلقه إنعاما. وأكثر ما تقذف به الأرحام من النسمات إنما هو ثمرة من ثمرات الحب، يأتي بها عفوا لا نبتة من نبات الأرض يبذر الزراع بذورها ليستنبتها.
والله تعالى غني بربوبيته ووضوح آثارها عن الاستدلال عليها بنطفة يقذفها قاذفها في بعض الأرحام، فإن كان لا بد في إثبات ربوبيته من دليل يدل على مخالفته للحوادث في الصفات والأفعال فالأدلة على ذلك كثيرة لا يضبطها الحساب كثرة، وربما كان أهونها وأضعفها أنه لا يتخذ ولدا وأنهم يتخذون، على أن المتخذين كثيرون قد ضاق بهم الأرض وظهرها، فالمسألة مفروغ منها قبل أن يخلق هذا الممدوح ويخلق ولده، فلا فضل له في الإتيان بشيء جديد.
أو يقول:
وما ريح الرياض لها ولكن ** كساها دفنهم في الترب طيبا
فإن الأزهار التي تستمد حياتها ونماءها من جثث الموتى ورممهم لا يمكن أن تكون طيبة الريح، على أن الأزهار مريحة قبل أن يدفن هؤلاء الموتى في قبورهم، فلم يزد في كلمته هذه على أن أتى بخيال ضعيف مبتذل هو أشبه الأشياء بخيال العامة الذين يرون أن بعض الأزهار ما خلق إلا إكراما لبعض النبيين.
أو يقول:
تتلف في اليوم بالهبات وفي السا ** عة ما تجتنيه في سنتك
فقد أراد أن يصف ممدوحه بالكرم وصفا فوق ما يصف الناس، ويأتي في ذلك بما لم يأت به غيره، فأنزله منزلة المجانين المسرفين الذين لا يحسنون الموازنة بين أرزاقهم ونفقاتهم.
ولو تقدمت هذه التهمة بهذه الصورة إلى قاض من قضاة المال لما كان له بد من الحجز عليه، والقضاة يرضون في مثل هذه الأحكام بدون إنفاق دخل السنة جميعها في ساعة واحدة أو يوم واحد.
أو يقول:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ** يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ** عن الأكفان ثوب السافيات
والريح ليست كفنا والرجل لا يزال مصلوبا غير مقبور، ولا يزال عاريا غير مدرج في كفن.