تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ... )

ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 04 - 2010, 08:57 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)

فذلك من التذكير بالمنة الربانية فناسبه التوكيد، ومجيء المسند إليه على حد ضمير الفاعلين تقريرا لعظم النعمة، فهي من عظم المنعم بها، جل وعلا، وهي نعمة ظهرت فيها آثار صفات جمال الرب، جل وعلا، بإنجاء نوح عليه السلام ومن معه، وصفات جلاله إذ أهلك قوم نوح عليه السلام، وأهلك سائر أعداء الرسالات بالاستئصال العام أو الخاص أو التخوف، كما يجري لكثير من الأمم المكذبة التي جرت عليها سنن الإمهال والأخذ شيئا فشيئا، حتى شارفت على الدروس والاندثار، كما هي حال الغرب المعاصر، فهو مع جريان سنة الإمهال فيه بتمكين ظاهر، فله أسباب الظهور المادي من سلاح وعلوم تجريبية ونهضة تكنولوجية ...... إلخ، إلا أن سنة التخوف فيه جارية، فهو آخذ في الانقراض، فضلا عن هشاشة بنيانه الإنساني، لغلوه في اعتبار حق الجماعة في مقابل الجفاء في حق الفرد، فتركت الفرد وشأنه، وإن فسد، فلا يعنيها منه إلا ما ينفع به الشأن العام، وإن كان أتعس الناس، فيصير الظاهر قويا متماسكا براقا يخدع بريقه كثيرا من أبناء الحضارات الأخرى التي لا تملك من أسباب الدنيا ما يملكه، والباطن هش ضعيف قد نخره السوس وتمكن منه العطب فلا صلاح له إلا في عين ما يفر منه ويسعى للقضاء عليه من الرسالة الخاتمة: فهي منهاج الكرامة الآدمية التي فقدها أكثر الناس في زماننا، فـ: (من يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)، وأي هوان أعظم من صرف العبد عن اتباع الوحي، بمقتضى العدل الإلهي والقضاء الكوني عليه بالضلال فلو علم الرب، تبارك وتعالى، فيه محلا قابلا لآثار الوحي النافع ما حجبه عنه، فقد أعطى غيره بفضله ومنه، ومنعه بعدله وحكمته فلا يضع الشيء في غير موضعه.

واستعير الطغيان للزيادة على جهة الاستعارة التصريحية التبعية، إذ ناب فعل الطغيان عن فعل الزيادة، فدل على عظمها فهي زيادة قد جاوزت الحد المعتاد، بل جاوزت كل الحدود، فأدركت ابن نوح المعتصم بأعالي الجبال، فكيف بما دونها؟!.

وقد يقال بأن الاستعارة: مكنية من جهة تشبيه الماء في زيادته بالطاغية في تجاوزه الحد، ومن ثم حذف المشبه به وكني عنه بفعله: فعل الطغيان، فالطاغية يطغى بداهة.

ونسبة الطغيان إلى الماء من وجه آخر، مما قد يحتج به مثبت المجاز في الكتاب العزيز، إذ الطغيان من أفعال العقلاء، فنسبته إلى الماء نسبة مجازية، فيكون ذلك جار مجرى نسبة الإرادة إلى الجمادات، كما في قوله تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)، ومنكر المجاز لا يسلم بذلك إذ نسبة أفعال العقلاء إلى غير العقلاء جائزة، فالرب، جل وعلا، قادر على أن يخلق فيها قوى لا تدركها الحواس الظاهرة، كما ذكر ذلك صاحب رسالة "منع جواز المجاز" رحمه الله فهو أشهر من تصدى لإنكار المجاز من المعاصرين، فمنها: قوى التسبيح الثابتة بنص الكتاب العزيز في نحو قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فليس عدم العلم: علما بالعدم، فيجوز عقلا أن يخلق الرب، جل وعلا، في الجمادات قوى الطغيان والإرادة والتسبيح ..... إلخ، وقد نطقت العرب بذلك فنسبت أفعالا كالإرادة في قول الشاعر:

يُريدُ الرُّمحُ صَدْرَ أبي بَرَاءٍ ******* وَيَرْغَبُ عَنْ دِماءِ بَنِي عُقَيْلِ

فنسب فعل الإرادة إلى الرمح، مع كونه جمادا لا يعقل، فلا يحس ولا يريد كسائر الكائنات الحساسة المتحركة، فهي فاعلة بالإرادة لا بالطبع، فصار الاستعمال حقيقة لجريان لسان العرب به، وهو الحجة التي يفزع إليها في هذا الشأن، فما تكلمت به العرب قد صار حقيقة في لسانها وإن كان على خلاف دلالة اللفظ المعجمية، فهي دلالة إفرادية تباين الدلالة التركيبية التي تفيد بما ينضم إلى اللفظ من دلالة السياق معان تزيد على المعنى المعجمي الثابت بالوضع الأول على القول بوضع اللغة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير