تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[التردد والتكرار بين العرض البلاغي والغرض التواصلي.]

ـ[حبيب مونسي]ــــــــ[03 - 12 - 2009, 07:53 م]ـ

التردد والتكرار بين العرض البلاغي والغرض التواصلي .. الحلقة الثانية

أ. د. حبيب مونسي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية- سيدي بلعباس- الجزائر.

4 - التكرار، الأسلوب والتبليغ:

من الواضح جدا أن حديث النحاة والبلاغيين عن التوكيد والتكرار لم يفارق اللفظ والعبارة التي تتردد في الخطاب بمعناها الأول الذي وردت فيه. ومن ثم يكون عرضنا للتكرار والتوكيد لا يلامس القضية من وجهها المعياري، بل نلتقط منها ما يتصل بالمعطى النفسي الاجتماعي. ذلك لاعتقادنا أن الأسلوب وإن كان ظاهرة لغوية في أساسه، فإنه -زيادة على ذلك- ظاهرة نفسية فيما يتصل بالمبدع والمتلقي، وظاهرة اجتماعية فيما يتصل بالتواصل عموما إذا اشترط السياق والمقام.

ومن ثم يكون الحديث عن التكرار المتصل بالنصوص، غير واقع في دائرة التوكيد. فإذا خرج منها فليس بتكرار مطلقا. الأمر الذي سيحتم علينا إيجاد اصطلاح يعيِّن ويحدِّد الظاهرة التي تتصل فيما نبحث فيه في هذا الكتاب. ذلك أننا حين نقف أمام القصص القرآني، ونجد القصص "تتردّد" في مواضع مختلفة، بأساليب مختلفة، ولأغراض مختلفة، فلا يجوز لنا وسمها بالتكرار، ولا اصطلاح التكرار يفي بحقيقتها ما دام يشير إلى المعاودة في الهيئة ذاتها من غير زيادة ولا نقصان. ونصوص السرد القرآني لا تعود بجملتها، لا لغة ولا مضمونا. وكأننا كل حين أمام قصة جديدة.

إننا نطمئن الساعة إلى اصطلاح "التردّد" " fréquence" ونحن نعلم أن المصطلح يحبل بخلفية استعمالية تجنح به نحو الحيرة والتردد الذي يجدها المتحدث والسالك فيما يقبل عليه. كما نجد فيه فيزيائيا ذلك العود المماثل للذبذبة في شدتها وتمددها. غير أننا نريد منه ذلك المعنى الذي يمكن أن نستقيه من الهيئات التي تكون في المتردد. إنه في كل حالة من أحواله يغير من هيئته الأولى. فهو لا يبقى على حال واحد أبدا. فالذي يسكنه من قلق وحيرة، يجبرانه على التلون في المظهر والمخبر ليشاكل بهما الموقف الذي لا يعرف كيف يقبض عليه. فحركته تلك تجعلنا نلحظ فيه الهيئات المختلفة التي تمليها عليه المواقف التي يظن أنها ماثلة أمامه. فهو إن حدد طبيعة الموقف الذي يباشر لبس لبوسه الخاص، فإذا تين له الخطل فيما تصور أو توهم، تراجع سريعا إلى موقف آخر.

إن التردد بهذا المعنى سلبي في أساسه. ناتج عن سوء فهم وتقدير. بيد أنه يقدم لنا الهيئات المختلفات التي لا يكون فيها الشخص شبيها لذاته في لحظات القلق الأخرى. ففي كل مرة يكتسب من تردده خبرة تنضاف إلى خبراته السابقة، فتزحزحه عن أفقه الذي كان فيه من قبل. بيد أن للتردد وجه إيجابي نستقي منه الدلالة التي نريد. فإذا قلنا أن فلانا يتردد على الشيخ الفلاني، فقولنا ذاك يفصح عن حركة يقوم بها الطالب باستمرار، يعود فيها إلى مجلس الشيخ يغترف منه علما. فهو في كل عودة مغاير ومفارق للوضعية التي كانت له من قبل، لزيادة العلم، والاستفادة من الصحبة. حتى وإن كانت الأحوال في التردد متشابهة ظاهريا، فإنها في تقاربها تختلف كما يختلف اللفظ المكرر في الجملة للتوكيد، إذ لسنا نسمعه في الثانية بنفس النبرة التي تكون له في النبرة الأولى، ولا بنفس الشدة. لأن الغرض فيه قائم على مطلب نفسي يقتضي تحميله توترا خاصا ينتهي به إلى التقرير. وقد وجد السلف في لفظ "التردد" غايتهم لنعت هذا الحال في القرآن الكريم. فقد روى ابن كثير في تفسيره عن مجاهد، في قوله تعالى:? الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني? قوله: «هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم … كله متشابه مثاني. وقال قتادة الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف. وقال الضحاك: مثاني ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى ... وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مثاني مردد، ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة.» () وكأنهم استعاضوا عن التكرار بالتردد لما في الأول من شبهة يركبها الزنادقة المشككون، ولما في الثاني من تجدد في كل هيئة وموضع.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير