تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[عن الحسنة والسيئة في التنزيل]

ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 03 - 2010, 07:59 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

فالحسنة والسيئة من المواد اللغوية التي تدل على المستحسن والمستقبح، وهي تحتمل الحسنة والسيئة الشرعية، والحسنة والسيئة الكونية، والسياق هو الذي يعين المراد، فالحسنة والسيئة في نحو قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، هي النعمة والمصيبة، بقرينة إصابتها العبد فلم يصبها اكتسابا وإنما أصابته تقديرا، فقرينة إسناد الفعل إليها، وإن كان المصيب بها هو الله، عز وجل، فمن شاء أصابه بالنعمة فضلا، ومن شاء أصابه بالنقمة عدلا، فهي مصيبة للعبد بمقتضى ما ركز فيها من تأثير بالنفع أو الضر، فالحسنة الكونية تنفع والسيئة الكونية تضر، ولكنها لا تستقل بالتأثير بل تجري وفق ما قدر الرب الحكيم القدير، تبارك وتعالى، فقرينة الإسناد إلى الحسنة والسيئة مئنة من إرادة المصائب الكونية: بالخير أو الشر، وإن كان العرف اللغوي، كما تقدم في مواضع سابقة، قد خص المصيبة بما يقع من النقم والشرور التي تبغضها وتنفر منها النفوس، وإن كان الشر في بعضها عارضا، بل خيرا باعتبار مآله فهو ذريعة إلى تحصيل خير أعظم منها ولولاها ما حصل هذا الخير، فذلك من عظم حكمة الرب، جل وعلا، في تقدير الأسباب وإن كان فيها شر عارض، فبها يقع من الخير ما لا يخطر على بال المصاب حال إصابته.

بينما إسناد الفعل إلى المكتسب أو الفاعل في هذه الآية مئنة من إرادة الحسنة والسيئة الشرعية التي يوقعها العبد بإرادته الحرة المختارة، وإن كان اختياره لا يخرج عن اختيار الرب، جل وعلا، له بمشيئته العامة، فما شاء كان وإن لم يرده شرعا، وما لم يشأ لم يكن وإن أراده شرعا، فالإرادة الكونية أعم من الإرادة الشرعية من هذا الوجه فتشمل محبوبات الرب، جل وعلا، ومبغوضاته.

فالحاصل أن السياق، كما تقدم مرارا، هو الذي يعين مراد المتكلم، فاختلاف جهة الإسناد في الآيتين قد عين المراد من كليهما، فلما كان الإسناد إلى ذات المقدور الواقع من حسنة أو سيئة تصيب العبد كان المراد هو: التقدير الكوني النافذ، ولما كان الإسناد إلى الفاعل للحسنة أو السيئة كان المراد هو: التقدير الشرعي الحاكم، فتحديد جهة الإضافة في باب القدر خصوصا، وفي بقية أبواب الديانة عموما مما يحسم كثيرا من الإشكالات فالمعاني تتباين بتباين إسنادها، فقد يكون الإسناد على سبيل الفعل، كفعل العبد للطاعة أو المعصية، وقد يكون الإسناد على سبيل الخلق، كإسناد كل الأحداث الأرضية من خير أو شر إلى الله، عز وجل، فتسند إليه تقديرا في الأزل أولا وخلقا في الشهادة تاليا، فلا ينسب الشر إليه، جل وعلا، على جهة التصريح، ولو كان المراد إضافة المخلوق إلى خالقه، تأدبا مع الله، عز وجل، فذلك نوع تخصيص للعموم لا يليق، فجاء ذلك بصيغة العموم في قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وهو عموم محفوظ لم يدخله التخصيص، بل لا يتصور ذلك، إذ الرب، جل وعلا، هو خالق كل شيء، فكلٌ من عنده تقديرا وخلقا، وإن كان فيه شر يبغضه فلم يرده شرعا، فينسب إليه تقديرا لا تشريعا، وهو مع ذلك، كما تقدم، شر باعتبار الحال لا باعتبار المآل، فلا يخلو من خير آجل يفوق مفسدة الشر العارض.

فتخصيص العام في هذا الباب قد يحسن، إن خصص بأفراد يظهر بها كمال وصف الرب، جل وعلا، كمن دعا فقال: يا خالق السماوات والأرض، أو يا خالق الملائكة والروح القدس، وفي المقابل قد يقبح إن أوهم نقصا كمن دعا فقال: يا خالق الخنازير والكلاب، أو: يا خالق الشياطين وإبليس!، وإن صح معناه باعتبار الخلق، فجهة الخلق، كما تقدم عامة لكل خير وشر، فالرب، جل وعلا، هو الذي خلق الشيء وضده، فخلق معادن الطهر والخير كالملائكة وسائر الطيبات، وخلق معادن الرجس والشر كالشياطين وسائر الخبائث.

وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى" بقوله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير