تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مُؤْمِنِينَ)، فإنهم، كغيرهم من الأمم، يجري عليهم ما يجري على بقية الأمم من السنة الكونية الجارية، فليس تحقير النبوات بالتكذيب أو المخالفة والعناد، ليس ذلك سببا لذلة بني إسرائيل دون غيرهم، بل كل من خالف النبوة فله من تلك الذلة نصيب، فمن مقل ومن مستكثر، فالنص، كما تقدم، عام باعتبار معناه، وإن كان لفظه خاصا ببني إسرائيل، فسنة الرب، جل وعلا، في إعزاز من أعز النبوات بتعظيم حملتها والسير على منهاجها، وإذلال من كان على ضد ذلك، سنته في ذلك جارية، فلا تفريق بين متماثلين فيها، ولا يجدي الانتساب الاسمي إلى النبوة، ولو كانت صحيحة محفوظة من التبديل، لا يجدي المنتسب شيئا حتى يقيم الدليل العملي على صدق دعواه القولية، فالعمل شاهد العدل للعلم، فإن شهد لصاحبه بالموافقة كان علما نافعا، وإن شهد عليه بالمخالفة كان إقامة للحجة، فليس نافعا له، وإن كان علم النبوة في نفسه نافعا، فليس العيب فيه، وإنما العيب في المحل الذي لم يقبل آثاره النافعة، فليست كل المحال المريضة تقبل آثار الدواء.

وجاءت قد بمعنى التحقيق، وإن دخلت على المضارع، فهي تفيد من هذا الوجه التقليل، فذلك من جنس قوله تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "مغني اللبيب"، رحمه الله، بقوله:

"المعنى الثالث، (أي من معاني: قد): التقليل، وهو ضربان: تقليل وقوع الفعل نحو قد يصدُقُ لكذوبُ وقد يجود البخيل وتقليلُ متعلقه نحو قوله تعالى (قدْ يعلمُ ما أنتم عليهِ) أي ما هم عليه هو أقلّ معلوماته سبحانه". اهـ

"مغني اللبيب"، (1/ 192).

فذلك التقليل باعتبار معلومهم، فإن آيات نبوة الكليم، عليه السلام، قد بلغت من البيان والظهور غايته، فصار العلم بصدقه من جملة العلوم الضرورية عندهم فهي أقل معلومهم من هذا الوجه، وذلك أمر قد اطرد في سائر النبوات، فإن أدلتها قد بلغت حد التواتر اللفظي والمعنوي، فأفادت الناظر فيها بعين الإنصاف طلبا للهداية، علما ضروريا بصدق صاحب الرسالة.

وذلك آكد في توجه الذم إليهم، فلا حجة لهم في إيذاء الكليم، عليه السلام، وقد ظهر لهم من دلائل صدقه ونبوته ما ظهر، فكان إيذاؤه بعد ذلك أقبح، ولذلك صدرت الآية بالاستفهام الإنكاري التوبيخي لهم على ما كان منهم من إيصال الأذى إلى موسى عليه السلام.

ثم جاءت العقوبة الكونية المقدرة لهم من جنس فعالهم، فلما زاغوا فآذوا موسى عليه السلام، وذلك مئنة من تحقيرهم من شأن النبوات، أزاغ الله، عز وجل، قلوبهم، فالجناس بين الفعلين آكد في بيان المعنى، فالجزاء، كما تقدم، من جنس العمل، فقد قدر الرب، جل وعلا، عليهم بعلمه الأول: فساد محالهم، فلا تقبل آثار الوحي النافع، فذلك حكمه العدل فيهم إذ لم يصطفيهم واصطفى غيرهم بفضله، فلم يظلم كليهما، وإنما هو محض فضله يهبه من شاء ويمنعه من شاء، فزاغوا بأمره الكوني النافذ عن التزام أمره الشرعي الحاكم، فجاءت العقوبة إزاغة متعدية بهمزة التعدية، فزاعوا، فنسبة الفعل اللازم إليهم مئنة من كمال اختيارهم وإن لم يخرجوا به عن مشيئة الرب، جل وعلا، العامة، فجاءت العقوبة بالفعل المتعدي من الرب، جل وعلا، إليهم.

ثم جاء التذييل في معرض الوعيد بحجب الهداية الكونية: هداية التوفيق والإلهام، عن القوم الفاسقين، فهو خبر أريد به إنشاء الزجر بالوعيد، وهو على ما اطرد في نصوص الوعيد عام باعتبار لفظه، فضلا عن تعلق حكمه بالوصف المؤثر الجالب له وهو الفسق والخروج عن حكم الديانة، فيدور معه وجودا وعدما، فلا يهدي القوم الفاسقين منطوقا، ويهدي القوم المؤمنين مفهوما. وتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل الوارد على حد المضارعة، آكد في بيان المعنى فضلا عن دلالة التجدد والاستمرار فذلك فعله العدل، تبارك وتعالى، في الفاسقين، فـ: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، فذلك وارد، أيضا، بصيغة المضارعة مئنة من تجدد الحكم بتجدد علته، فلا يقتصر الحكم على سبب وروده بل هو عام فيهم وفي غيرهم فكل من خرج عن حكم النبوة فله من حجب الهداية الكونية عن قلبه نصيب، وأظهر الاسم الجليل في: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وحقه الإضمار فذلك، كما اطرد في كلام البلاغيين، آكد في تربية المهابة في سياق الوعيد.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير