تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليس ثم دين قد استوفى شطري القسمة الإنسانية: الشطر العلمي الباطن، والشطر العملي الظاهر، كدين الإسلام، فإن يهود، عباد المحسوس، قد غلبوا المحسوس على المعقول، فتراهم يعنون بأبدانهم وإن فسدت أرواحهم، فوسوستهم وتنطعهم في أمور الطهارة أمر معلوم، واحترازهم من مباشرة النجاسات إلى درجة الغلو، بتتبع آثار الدماء في العروق، وعدم مساكنة الحائض حال حيضها، وقطع ما أصابته النجاسة من ثيابهم ..... إلخ أمر مشهور، وهو حالٌ ليس حكرا عليهم بل لكل من أهمل شأن الروح وانتصر للبدن منها، من ذلك نصيب، فالعلمانية المادية التي تحكم الغرب الآن، وقد سرت عدواها إلى كثير من أبناء الشرق المسلم، هي صورة جديدة من صور تقديس المادة، وازدراء الأديان، فهي، بزعم أصحاب النظريات المادية، محض أوهام وخيالات تسرف في تعاطي الغيبيات، وتهمل أمر المحسوسات المدركات، والإسراف في تعاطي الغيب إلى حد الخرافة، وهو الجانب الآخر من طرفي الجور في هذه القسمة، وهو الذي غلب على النصارى، الذين جاءوا على ضد يهود، فانتصروا للأرواح من الأبدان، وألزموا أنفسهم بتصديق كل خرافة أو نبوءة أو منام فصار الدين سلسلة متصلة الحلقات من الأسرار المقدسة التي لا يعلم عنها أحد شيئا لأنها محض أوهام تمجها العقول الصريحة، والمعجزات المبتكرة حينا فهي من جنس خداع السحرة أو الحاصلة برسم الإهانة فهي من تلبيس الشيطان وإن ظن صاحبها أنها كرامة من الرحمن كما يقع لكثير من غلاة الإسلاميين الذين ساروا على خطة النصارى في تتبع الخرافات والتهويل من الخوارق فصارت هي دليل صحة الدعوى الدينية وإن كانت مخالفة للأدلة العقلية الصريحة،

وهو ما مكن للعلمانية في الغرب لما ضاق الناس ذرعا بتسلط الكنيسة فانقلبوا عليها وكفروا بدينها وصيروا هواهم المعبود الأول برسم: الحكم المطلق للشعب بعد أن كان الحكم المطلق للكنيسة التي عبدت الناس لها فقابلها أولئك بتعبيد الناس لأهوائهم فاستبدلوا شرا بشر.

والشاهد أن النصارى ومن سار على طريقتهم من الغلاة في الزهد والرياضة فهم ورثة النصارى: لم تسلم نفوسهم مما أصاب يهود ومن سار على طريقتهم من أصحاب المذاهب المادية كالعلمانيين فهم ورثة يهود، فلم يسلم الأولون مما وقع فيه الآخرون: من آثار معركة خاسرة تستهلك قوى الإنسان بفرض ما لا وجود له من الصراع بين الروح والبدن، فلا يمكن أن يتفقا أبدا، فتلك معركة من جنس معركة النقل والعقل، فقد افترض من افترض من المتكلمين وقوع التعارض بين الوحي: محرك الباطن، والعقل: محرك الظاهر، فالمعركة في حقيقتها ترجع إلى الأصل الأول: تعارض الباطن المعقول والظاهر المحسوس، ففرض الآخرين من فرض الأولين وإن اختلفت النتيجة فـ: صراع متوهم بين قوى الإنسان التي أودعها الرب، جل وعلا، فيه لتتكامل لا لتتناقض، فيهدم بعضها بعضا، وينتصر لبعضها من بعض، فيعيش الإنسان صراعا محتدما بين باطنه الطالب للمعاني المعقولة، وظاهره الطالب لِلَّذَّاتِ المحسوسة، فيقع ما وقع من انتصار يهود وورثتهم للظاهر وانتصار النصارى وورثتهم للباطن، فالأولون: ماديون ملحدون يبطلون دلالة الوحي على الغيب فلا يؤمنون إلا بما تدركه حواسهم في عالم الشهادة، والآخرون: روحانيون خرافيون، فيبطلون دلالة الحس في عالم الشهادة انتصارا للغيب ولو كان خرافة أو وهما لا حقيقة له.

وبينهما: الدين الخاتم الذي أزال ذلك التناقض المتوهم بين الباطن والظاهر، فلكل نصيبه المفروض من أحكام الديانة، فالأخبار غذاء الروح، والأحكام غذاء البدن، وكلاهما من مشكاة النبوات قد صدر، فالنبوة، كما تقدم مرارا، هي معدن صلاح الباطن بالأخبار الغيبية اليقينية من: إلهيات تغتذي بها الأرواح فالعلم بأسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، هو أشرف أجناس الأغذية الشرعية، ونبوات بها يعرف الحق من الباطل فهي أجل نعم الرب، جل وعلا، على خلقه، وسمعيات بها يعرف كل مآله بعد الموت فذلك سؤال يلح على كل ذهن، ولا إجابة له إلا عند الأنبياء عليهم السلام، وصلاح الظاهر بالأحكام الشرعية العملية.

فمن نهى النفس عن جنس الأهواء فـ: "أل" في الهوى: جنسية استغراقية لعموم الأهواء علمية كانت أو عملية، فـ: إن الجنة: فذلك جواب الشرط، و: "أل" في: "الجنة" أيضا: جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه من الجنان، فهي جنان كثيرة لا جنة واحدة، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالجزاء من جنس العمل، فمن نهى نفسه عن عموم الأهواء فإن عموم الجنان بما تحويه من صور النعيم المتكاثرة فلا يحصيها محص ولا يعدها عاد: هي مأواه، فضمير الفصل: "هي": توكيد آخر بعد تصدير الجواب بالمؤكد الناسخ: "إن" فضلا عن تعريف الجزأين: "الجنة" و: "المأوى"، فهي مأواه لا غيرها، فالقصر حقيقي، و: "أل" قد نابت عن الضمير في قول الكوفيين وبعض البصريين وكثير من المتأخرين، كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب"، (1/ 76)، فهي المأوى تكافئ: هي مأواه، وإنما امتنع اجتماعهما لئلا يتوارد على اللفظ معرفان: التعريف بـ: "أل" والتعريف بالإضافة إلى الضمير، ومن منع فإنه يقدر محذوفا يقدر فيه الضمير من قبيل: فهي المأوى له، فتكون المسألة عنده من باب الإيجاز بالحذف لدلالة السياق على المحذوف، وذلك أمر قد اطرد في التنزيل، فهو دليل من أدلة بيان الكتاب العزيز للمعاني بأبلع وأوجز المباني.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير