تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والنهي عن طاعة الغافل، وقد جاء التعريف بالموصولية مئنة من العموم، سواء أكانت غفلته علمية بشبهة وهي الأخطر والأولى بالحذر والاجتناب فإن كثيرا من أرباب الشبهات يلبسون على الناس بترفعهم عن الشهوات ففيهم زهاد وفيهم عباد وفيهم علماء قد فتنوا بعلومهم وفيهم أدباء قد فتنوا بآدابهم فألسنتهم بليغة وإن كانت مسالكهم قبيحة وفيهم قادة يجيدون فن خداع الجماهير بالخطب الرنانة والشعارات الطنانة وفيهم وفيهم ..... ، أم عملية وهي أهون، وإن كانت شرا محضا ففساد أصحاب الشهوات ظاهر لكل ناظر إلا إن كان قد عدم البصيرة ففسدت فطرته الآدمية فصار القبيح عنده حسنا وغالبا ما يجتمع الأمران في المحل الفاسد فيبعد ألا تقترن الشبهة بشهوة، ففساد العلم مظنة فساد العمل، للتلازم الوثيق بينهما، وإن غلب نوع على نوع، ففساد التصور أظهر في حال الشبهة، وفساد الإرادة أظهر في حال الشهوة، والشاهد أن النهي عن طاعتهم لما يلزم منها من وقوع المطيع في غفلة مماثلة، فالمرء على دين خليله، والدين مادة تدل على الطاعة، فمن أطاع غيره في أمر فهو على دينه، ويزداد الأمر سوءا إن كانت طاعته برسم العبودية سواء أظهرها أم أبطنها، فيطيعه وإن خالف أمره أمر الوحي الشارع، كما يقع من الغلاة في الأحبار والرهبان، فذلك ملمح أصيل في دين الكتابيين تابعه عليه فئام من الإسلاميين برسم الغلو في الأئمة أو الصالحين، بل تعدى ذلك إلى السياسات، فصار كثير يقدم طاعة أصحاب السياسات الملوكية الجائرة، فيسمع ويطيع لأمراء الجور فيما لا طاعة لهم فيه من المعاصي والآثام، وربما كانت معاص جساما، كما هو حال كثير من متملكة هذا الزمان، فيسمع التابع ويطيع برسم الاختيار فليته كان مضطرا، بل هو راض مختار، بل كثير من حواشي السوء التي تحيط بالعروش، تزين للجالسين عليها ما هم عليه من الجور، فزواله بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض يذهب مكاسبهم ورياساتهم فهم كالخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام، فتتقصى مواضعه وتجتنب مواضع النور، فلسان حالها: ليت الزمان كله ليل، فكذلك أولئك لا يروق لهم أن تشرق شمس النبوات التي تبدد ظلمة جورهم، فحيث كانت نبوة فلا جور، وحيث لا نبوة فالجور حتم لازم، وحيث وجدا تصارعا، فانتقص كل منهما من الآخر، وصارت الدولة لأيهما غلب، فرافد خير ورافد شر، والظهور لمن عظم قدره وغلب وصفه، كالماء الطاهر إن لاقى نجاسة، فالحكم لمن غلب وصفه.

وذلك أمر يجري على الأفراد والجماعات فذلك الصراع يدور داخل كل قلب، وداخل كل أسرة، وداخل كل مصر، وداخل كل أمة، فهو صراع محتدم من لدن وسوس إبليس إلى آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة.

والإضافة في ذكرنا: تحتمل إرادة فعل العبد من ذكر الرب، جل وعلا، بالتسبيح والتهليل .... إلخ فتكون من باب: إضافة المصدر إلى المفعول فالرب، جل وعلا، فيها هو المذكور بالثناء الجميل، وتحتمل إرادة فعل الرب، جل وعلا من كلامه، وهو التنزيل، فالكتاب العزيز هو الذكر الحكيم فتلك جهة إضافته إلى الرب الكريم، تبارك وتعالى، فتكون الإضافة من باب: إضافة المصدر إلى الفاعل، فالرب هو الذي تكلم بالذكر الحكيم فذلك من وصف فعله المتعلق بمشيئته، فتكلم بكلمات الوحي لما شاء، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، لكمال قدرته وحكمته، ولا مانع من حمل الذكر في هذا السياق على كلا المعنيين، بل كلاهما يعم الآخر من وجه، ففي الأذكار آيات، وفي الآيات أذكار، كدعاء الأنبياء عليهم السلام، فحمل السياق على كليهما مما يثريه بتوارد المعاني الصحيحة عليه.

فالذكر في هذا السياق كالذكر في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي)، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في رسالة "مقدمة أصول التفسير".

وعطف اتباع الهوى على إغفال القلب: عطف لازم على ملزومه، فالاقتران بينهما وثيق، فإن القلب إذا غفل فسد تصور وإرادة الإنسان فاتبع هواه لجهله بمواضع الحق، فاتباع الهوى مسلك عملي فاسد تولد من الغفلة فهي المسلك العلمي الفاسد، على ما اطرد مرارا، من التلازم بين فساد الباطن العلمي والظاهر العملي، فالهوى الظاهر مئنة من الغفلة الباطنة.

ثم جاء التذييل بالتوكيد على فساد أمره مصدرا بفعل الكون: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، فذلك آكد في تقرير المعنى وزيادته فهو مئنة من تمكنه من صاحبه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فاتصافه به مستمر على ما اطرد من كلام النحاة في دلالة الكون الماضي على دوام اتصاف اسمه بخبره، ولا يمنع ذلك من دوام اتصافه به في الحاضر والمستقبل وإلا ما صح التحذير والتنفير منه، فتكون: "كان" على هذا الوجه: مسلوبة الدلالة على الزمان الماضي، فذلك من قبيل قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، فأفاد التوكيد على اتصاف الرب، جل وعلا، بأوصاف كماله أزلا، ولم يدل على انتفاء الوصف عنه، تبارك وتعالى، في الحاضر أو المستقبل، بل له الكمال المطلق: أزلا وأبدا.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير