تحية عطرة لجميع الأخوة الأساتذة المشاركين على ما أفادونا به.
أخي الكريم شاكر الغزي، أود أن أعقب على ما تفضلت به من مغالطات، وتصحيح ما زعمته من أمور، فليكن صدرك رحبا لقبول ذلك.
أولا: قلت - رعاك الله - "ليس معنى الضرورة الشعربية مخالفة قواعد اللغة العربية، إذ لكل ما ورد من الضرورات تأويلٌ وأصلٌ يمكن رده اليه".
فما الضرورة بنظرك؟ فحينما يقعدون على أن (ال) لا تدخل الفعل، ثم يرون من يكسر هذه القاعدة ويقول:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته **ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
ماذا تسمي دخول (أل) على الفعل التي هي من علامات الاسم؟
وحينما يقعدون على وجوب استتار ضمير (أنْ) المخففة، ثم يرون من يكسر هذه القاعدة فيقول:
بأنْكَ ربيعٌ وغيثٌ مريعٌ **وأنْك هناك تكون الثمالا
فمذا تسمى هذا؟؟ أليس كسرا للقاعدة؟
اعلم أن" الشعراء أمراء الكلام (كما قال الخليل) يصرفونه أنّا شاؤوا "، غير أننا يجب أن نعلم أن كسرهم للقواعد محدود وله مواضع معينه، ولم يخطّؤهم أحد لأنهم في عصر أجمع النحاة على أن اللغة بلغت فيه الدرجة العليا في الفصاحة.
ثم إني أرى أنك تناقض نفسك بنفسك، فكيف تقول أن الضرورة ليست مخالفة القواعد، ثم تقول لأن لكل ما ورد تأويل وأصل يمكن الرجوع إليه، إذ على زعمك الضرورة تكون لما ليس له أصل وتأويل في كلامهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اعلم أن التاويل لم يأت به النحاة إلا لرد النصوص المخالفة للقواعد، لكي لا يحكم على هذه النصوص بالشذوذ، فالنحوي يلجأ للتأويل حينما يجد نصا مخالفا للقاعدة، وهذا النص من عصر الاحتجاج، فيحاول أن يرده إلى القاعدة بالتأويل، وإذا لم يمكن، تركَه وحكم عليه بأنه شاذ لأنه مخالف للقاعدة.
فإذا أمكن تأويل الضرورات (على حد زعمك) فما الفائدة إذن من إطلاق مصطلح (ضرورة) عليها التي هي نوع من الشذوذ النحوي خاص بالشعر؟
قال الأستاذ فتحي الدجني في كتابه (ظاهرة الشذوذ في النحو العربي):" نرى تقاربا شديدا بين المفهومين (أي الضرورة والشذوذ) فالضرورة خروج عن القياس، وكذلك الشذوذ". ص 39، ط1، 1974م، وكالة المطبوعات، الكويت.
وقال أحد المعاصرين (أظنه الأستاذ تمام حسّان) في كتاب (أسرار اللغة):" وقد خطرت فكرة الضرورة الشعرية بأذهان أولئك النحاة الأوائل الذين وجدوا بعض الشواهد لا تنطبق على قواعدهم وأصولهم، ففسروها على أن الناظم قد اضطر اضطرارا لسلوك هذا الشطط خضوعا للوزن، والقوافي الشعرية ". نقلا من السابق 45.
وهذا يجرني إلى الحديث عن الضرورة بإيجاز، لكي تعم الفائدة.
عرّف ابن مالك الضرورة بأنها:" ما ليس للشاعر عنده مندوحة (مخلص).
وعرّفه جمهور النحاة بأنه:" ماوقع في الشعر مما لا يقع في النثر سواء أكان للشاعر عنه مندوحة أم لا "
وقد رد الشاطبي، وأبو حيان على ابن مالك، لأنه على زعمه لا تجود ضرورة، لأنه ما من تعبير إلا ويمكن للشاعر تغييره.
ومن هذه الردود:
قال الشاطبي في أحد ردوده: أنه قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر، واحده يلزم فيها ضرورة إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة لأن اعتناءهم بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ.
وبين أبو حيّان الأندلسي أنّ ابن مالك لم يفهم معنى الضرورة في قول النحاة، فقال ابن مالك في غير موضع ": ليس هذا البيت بضرورة لأن قائله متمكن من أن يقول كذا". ففهم أن الضرورة في اصطلاحهم هو الإلجاء إلى الشيء، (يقال أنهم لا يلجؤون إلى ذلك إذ يمكن أن يقول كذا) وذكر أنه على زعمه لا توجد ضرورة أصلا لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن إزالتها، ونظم تركيب آخر غير ذلك الترتيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك في تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع في كلامهم (النثر)، وإنما يستعملون في الشعر خاصة دون الكلام، ولا يعني النحاة بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإنما يعنون ما ذكرناه، وإلا كان لا يوجد ضرورة لأنه ما من لفظ إلا ويمكن الشاعر أن يغييره. نقلا من كتاب الضرائر وما يسوغ لشاعر دون الناثر، لمحمود شكري الالوسي، ط1، 1998م، دار الآفاق العربية، القاهرة، صفحة 6 يتصرف يسير.
¥