تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

-قلت: ظننت زيدًا قائمًا، هذا تركيب عربي صحيح، بدأت فيه بفعلٍ بنية عليه الجملة ورفع هذا الفعل فاعله، وهذا حقهما؛ لأن حق الفعل أن يعمل؛ ولأن حق الفاعل أن يعمل فيه، فهما متلازمان متصاحبان غير مفصولٍ بينهما بفاصل، واسمعوا هذه الهدية في اللغة, فلطالما كتبت وقلت:

إن اللغة العربية تمثل حياة أصحابها، ومعنى هذا في سرعةٍ وجيزة بأن العلاقة بين الفعل والفاعل كالعلاقة بين الأب والابن وبين الزوج والزوجة لا فاصل بين الفعل وفاعله، في نحو: حسبت، زعمت، أكلت، ضربت، لا غضاضة بين الفعل والفاعل حتى لو فصل بينهما، فالعمل قائم، وكأن هناك سفرة حدثت، فسافر الأب وبقيت مسئوليته عن ولده، أو سافر الابن وبقي بره بأبيه موصولًا. كما تقول: قام اليوم رجل، تقول: قام رجل اليوم، وتقول: اليوم رجل، وتقول: سافر إلى الهند محمد؛ يبقى لفظ "محمد" مرفوعًا، وإن فصل بينه وبين عامله بفواصل لا بفاصلٍ واحدٍ.

فلا نستفيد من ذلك أن هذه اللغة الشريفة إنما مثلت حياة الناس، يستطيع الناس في ضوئها أن يروا صورتهم الحقيقة في تضاعيف كلام الإمام وغيره من أئمة اللغة؛ ذلك لأني أوصي حضارتكم دائمًا بأن تعلموا أننا ندرس العربية جميع علومها، لا لكي نكون مثقفين، ولا لكي نحشّي أذهاننا بمعلومات، وإنما لكي نستضيء بهذه اللغة الشريفة في فهم كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليمًا كثيرًا.

يقول: سيبويه في هذا الصدد ونحن نقرأ عبارته حيث يقول: "فإذا جاءت مستعملةً، فهي بمنزلة رأيت، وضربت، وأعطيت، في الإعمال والبناء على الأول" هذا سطر من النور، يحتاج إلى روية في فهمه، فإذا جاءت مستعملةً وأنت تضبط عبارة سيبويه مستعملة نصبتها على الحالية، أي: إذا جاءت هذه الأفعال: ظن وحسب وخال ورأى وزعم وما يتصرف منها، إذا جاءت مستعملة فهي بمنزلة رأيتْ، وضربتْ، لعلك تلحظ أنه ممثل بـ"رأى".

وتسأل هذا السؤال: أليست رأى مثل ظن؟

والجواب: بلى، لكنك لا بد أن تعمل أن هناك فرقًا بين رؤية العين، وبين رؤياالقلب، أنت تقول رأيت زيدًا أي: أبصرته، أن تقول: رأيت زيدًا، يعني رأيت المسمى زيدًا، وإني سميتها مريم، يصح لك أن تقول: رأيت المسمى زيدًا، وأن تقول: رأيت المسمى بزيدٍ، لكنّ الأعلى أن تقول: رأيت المسمى زيدًا، أي: أن تعدي الفعل بنفسه لا بواسطة الباء، التي سوف تصحبنا في كتاب سيبويه كثيرًا، تقول: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} (آل عمران: من الآية: 36) قال -الله تبارك وتعالى- هذا، ولم يأتِ النظم القرآني: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا بمَرْيَمَ، بنفسه لا بواسطة الباء، فإن صح تعديته بالباء كانت تعديته بنفسه أعلى وأشرف وأفصح وأجمل. السؤال لماذا؟ الجواب: لأن على هذا المنوال جاء كتاب الله تعالى.

وكتاب الله تعالى لا أقول عاليًا، وإنما أقول أعلى درجات الفصاحة والبيان، فمن أراد كلامه فصيحًا لا أقول عاليًا، وإنما أقول من أراد أن يقيس كلامه صحيحًا أعلى في الفصاحة؛ فليتبع نظم القرآن الكريم في التعدي بالنفس، بالذات والأفعال، وما جرى مجراها، وفي الابتداء، وفي الخبر، وفي التعريف والتنكير، أي: أن يتأسًّى بأساليب القرآن الكريم في نظمه، رحم الله عبد القاهر الذي جعل القضية في (إعجاز القرآن) قضية نظم: "وليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وأن تعمل على أصوله" هذا هو النحو.

في أي شيءٍ تشبه ظن وحسب ورأى وأري وزعم، وما يتصرف من أفعالهن ضربت يا سيبويه، دعنا نسأل الإمام، ويقول: لنا اقرءو كتابي واعلموا ما معنى ضربت؟ معناها فعل وفاعل، وظننت معناها: فعل وفاعل. ضربت زيدًا، أو رأيت زيدًا، بمعنى أبصرته بالعين، لكن إذا قلت رأيت النحو سهلًا، لا شك أني لم أر النحو يتعامل كما يتعامل الناس بسهولة، وفي ضوء الحديث الشريف: ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى)). وإنما رأيته بقلبي، وكأن هناك إبصارًا بالقلب، وهناك كذلك إبصار بالعين، فإذا كانت رأى من الرؤية العينية، فهي تنصب فعلًا واحدًا، تقول رأيت زيدًا، رأيت شجرةً، كأنك تقول أبصرت، وإذا كانت الرؤيا، ولا تقول الرؤية بالتاء، وإذا كانت الرؤيا هكذا مقصورة بالألف بالقلب نصبت رأى فعلين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير