لاحظ أن معزلًا هي المفعول الثاني لـ"أزعم"، وأما مفعول "أزعم" الأول فهو الكاف، "أزعم" مضارع مجزوم بـ"لم" وعلامة جزمه السكون، والفاعل مستتر تقديره أنا، والكاف مفعول به أول، و"معزلَا" مفعول به ثانٍ، كأن سيبويه قد استشهد ببيت النابغة -من الطويل- على ورود "أزعم" عاملًا، ثم يقول: وتقول: أين تُرى عبد الله قائمًا، وهل تُرى زيدًا ذاهبًا؟ يقول عليه -رحمه الله-: إن "هل" و"إنَّ" "أين" وجودها كعدم وجوده، يعني احذر أن تظن أن اسم الاستفهام يؤثر على الأفعال التي تستعمل وتلغى، قال: لأن ما بعدهما ابتداء، أي لأن ما بعد اسم الاستفهام -وهو أين- وما بعد حرف الاستفهام -وهو هل المبني على السكون- ابتداء، كأنك قلت: أترى زيدًا ذاهبًا، وأتظن عمرً منطلقًا؟ يعني بدخول الحرف الذي هو همزة الاستفهام.
ومن ثم كان -عليه رحمة الله- يسأل شيخَه: لماذا يقولون كذا، ولم يقولوا كذا في أيّهم؟ فقال له شيخه: لأن أي استفهام، ولا يدخل استفهام على استفهام. أي أداة استفهام، فهو مستغنًًى بها عن الاستفهام الذي هو حرف الهمزة -كما ذكر العلماء، وكما ذكر سيبويه كذلك- قال: فإن قلت: أين وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة الابتداء والخبر إذا استغنى بها الابتداء. ومعنى استغنى بها الابتداء أنها خبر مقدّم وجوبًا؛ لأن لها الصدارة، إذا كنت تريد أن تقول: أين تَرى زيد، كأنك قلت: أين زيد، وجعلت "ترى" اعتراضًا بين "أين" وبين "زيد".
ما إعراب هذه الجملة؟
"أين" خبر مقدم مبني في محل رفع؛ لأن له الصدارة، والكلام بلغة سيبويه مبني على زيد، أي أن زيد مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، ودخلت "ترى" كما دخلت لو تذكرون بين عبد الله وبين ذاهب، يعني أنها دخلت بين المبتدأ والخبر، وكانت غير عاملة، أي أنها أُلغيت.
ينبهنا سيبويه هنا إلى أن هناك فرقًا بين أن تقول: أين تظن زيدًا قائمًا, أدخلت "أين" على جملةٍ عملت فيها تظن كما عملت قبل دخول أين. ومعنى ذلك أنك لا بدّ أن تنتبه إلى أسلوبين، وما أجمل أن يكون النحو دراسةً للأساليب في ضوء الكتاب.
هناك فرق بين قولك: أين تظن زيدًا قائمًا، وبين قولك: أين تظن زيد، الفرق بين الأسلوبين أن قولنا: "أين تظن زيدًا قائمًا" كأن كلمة "أين" غير موجودةٍ، وما بعدها كأنها كلام مستأنف، مبتدأ بها بدونها. لكنك حين قلت: "أين تظن زيدًا" كأنك قلت: أين زيد، كلام مبني على الخبر والابتداء، وتقدم فيه الخبر على المبتدأ؛ لأن له الصدارة، فهو اسم استفهام و"زيد" مبتدأ مؤخر، وجاءت كلمة "تظن" أو "ترى" ملغيةً غيرَ عاملةٍ، غير مستعملة، كما قال سيبويه -عليه رحمة الله.
استعمال "قال" بمعنى "ظن"
هنا فكرة مهمة جدًّا حين قال سيبويه: واعلم أنَّا قلت إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها، وقال: وإنما تحكي بعد القول ما كان كلامًا لا قولًا, هذه عبارة مهمة جدًّا يريد سيبويه فيها أن يفرِّق بين المحكي بالقول وبين القول، ما الفرق بين هذا وذاك؟ وما أثر هذا الفرق في إعمال القول؟
فرق كبير كبير؛ لأن "قال" تأتي كأنها ظن، وتأتي على أصل بابها، وأنت تعلم أن قلت جاءت كما قال: سيبويه: "لكي يُحكى بها الحق" إن سيبويه أراد أن يعلِّمنا درسًا بكرًا جميلًا في العربية، تستطيع أن تقول: قلت مثلًا حقًّا، وتعرب "حقًّا" على أنه مفعول به منصوب، ولا مشكلة في ذلك على الإطلاق، وتقول: قلت أنك، وأنا أفتح الهمزة؛ لأني ما قصدت بذلك كلامًا محكيًّا؛ وإنما قصدت بذلك قولًا.
هذا الدرس مهمٌّ جدًّا في حياة سيبويه، يقول: "والدليلُ على لسانه بأن القول يأتي ليحكى به، وأن الحكاية تكون كلامًا أنت تحكيه بـ"قال".
وأما الدليل الذي هو ملازمٌ سيبويه فهو استشهادُه بقول الله تعالى -من سورة آل عمران- {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 42) هنا قال: {قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ} من أوّل {إن} كان لسيبويه كلام؛ حيث قال -رحمة الله عليه-: ولهذا كسرت همزة "إنَّ"، ولو كان قولًا لفتحت الهمزة، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن قال: {الْمَلائِكَةُ} فاعل، {يَا مَرْيَمُ} قالت الملائكة مثلًا: نعم. أين المقول؟ المقول هنا محكيٌّ، يعني ليس من تصرّف الملائكة، ولا من كلامٍ قِيل، وإنما هو
¥